ليالٍ بلا نوم - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 1:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليالٍ بلا نوم

نشر فى : الثلاثاء 22 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 22 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

فى المول الجديد، الأنيق، الفاخر، فى بيروت، افتتحت «12» صالة عرض، ذات رونق جميل، سواء فى طريقة وضع الافيشات، ذات الأبعاد الثلاثة، أو مقاعد انتظار بداية الحفل.. لاحظت ان الطابور الذى أقف فيه، يتحرك على نحو سلحفائى، شديد البطء، فكرت فى الانتقال إلى طابور آخر، لكن وجدت أنه يتحرك بذات الوتيرة. ميلت رأسى لأستطلع الأمر. فوجئت أن الموظف المنوط به حجز التذاكر، شأنه شأن زملائه الآخرين، هو المسئول عن بيع الفشار والسندويتشات والمياه الغازية، فما هو، أمام شاشة كمبيوتر الحجز، يقطع تذكرتين، ثم يقف، يسير عدة خطوات جانبية، ليعمل مغرفة فى كوم الفشار، يصبه فى علبة كبيرة، ثم يعطينا ظهره، متجها إلى تنكات المياه الغازية، بألوانها البرتقالية والبنية والبيضاء، يفتح هذا الصنبور أو ذاك، ليملأ كوزا تلو الآخر.. يضع المقتنيات على صينية خشبية نظيفة، لامعة، يقدمها مبتسما إلى الزبون. يعود مسرعا، خفيفا، نشيطا، إلى موقعه أمام شاشة حجز التذاكر، ليعيد ما حدث مرة أخرى.

سألت الواقف أمامى عما إذا كان نظام بيع المسليات مع قطع التذاكر معمولا به فى دور العرض الأخرى. جاءت إجابته بالنفى وأبدى دهشته مما يجرى. استسلمت. حين وصلت إلى شباك التذاكر اكتشفت ان الفيلم بدأ منذ نصف ساعة. حجزت مقعدى لليوم التالى، وظل الكدر ملازما لمزاجى إلى أن شاهدت «ليالٍ بلا نوم» لإليان الراهب، الذى يعد تجربة شجاعة، إنسانيا وفنيا وتجاريا.

الفيلم التسجيلى، يستغرق الساعتين، وفى سابقة غير معهودة، يعرض فى صالة تجارية، فأفلامنا التسجيلية، عادة، لا تستقبلها إلا المراكز الثقافية، أو شاشات التلفاز، واللافت ان «ليالٍ بلا نوم» عمل متجهم، قاس، ينظر بصدق وجرأة إلى جرح غائر لم يندمل، فى الذاكرة اللبنانية. ربما يحاول البعض نسيانه، لكن ألمه لا يزال مستعرا. انه قضية من اختفوا، أو اختطفوا، إبان الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلى عام 1982، ويبلغ عددهم «17» ألفا، فقدوا، ولا يعلم أحد أين هم الآن، أو كيف ماتوا، أو أين دفنوا؟.

مفتاح الفيلم مزدوج. أحدهما يتمثل فى رجل ستينى، اسمه أسعد الشفترى، المسئول السابق فى جهاز أمن «القوات اللبنانية»، المتعاونة مع الإسرائيليين، قام بجرائم متعددة، منها القتل، والتعذيب، وتفخيخ السيارات، والاعتقالات.. فى سنة 2000، أعلن الرجل عن ندمه، وقدم اعتذاره عما اقترفه من آثام.. انه الآن، على أعتاب الشيخوخة، يعانى ضغط الدم والسكرى، بالإضافة للشعور بالذنب. الفيلم، فى بعد من أبعاده، عن أفول الجلاد.

الجانب، أو المفتاح الآخر للفيلم، يتجسد فى مريم السعيدى، المرأة الستينية أيضا، القوية، المثابرة، والدة الفتى ماهر، المفقود، إبان دفاعه عن كلية العلوم ببيروت، ضد العدو.. إنها، منذ العام 1982، لم تتوقف عن البحث عنه، أو على الأقل، معرفة مصيره.. وهى فى هذا، بلا كلل، تتشبث بأى شعاع ضوء من الممكن أن يدلها على ما ترنو له.

استبعدت اليان الراهب الشرائط الوثائقية عن الحرب، وحسنا فعلت، ذلك ان اهتمامها ظل مركزا على الإبحار داخل عقل ووجدان المجرم التائب، بعد فوات الأوان، والضحية التى لم تغب صورة فلذة كبدها عن عينيها.

المخرجة، تلتقى أسعد الشقيرى، تحاصره بالأسئلة، ويتعمد مصورها أن يحاصره داخل كادرات ضيقة، ويعترف الرجل بأنه قام بالقتل فعلا، بخنجر فى يده، من دون أن يرى عيون القتيل.. ومع صورته، أيام الضلال، مع بشير الجميل، ثم مع زملائه، نلمس غرور وأوهام القوة المطلقة، ويعبر عما كان يؤمن به، من أفكار «فاشية» فى جوهرها، سمعناها ونسمعها وسنسمعها، ممن يمهدون، سواء عن وعى أو جهل، إلى حرب أهلية.. الرجل يقول إنه اعتقد أحقية طائفته فى حكم لبنان، من دون الطوائف الأخرى، والتى اعتبرها، أدنى درجة.. هنا، يضع الفيلم يده على القوة المدمرة للأفكار المضللة، المغرية، الخاطئة، التى لن تؤدى إلى الوبال.. ما أحوجنا، فى بلادنا العربية، ومصر طبعا، إلى استيعاب الدرس.

اليان الراهب، تترك مساحة واسعة لمريم السعدى، ذات القلب الجريح، والإرادة التى لا تلين، تتابعها فى الذهاب معها من سجلات دولة منهارة، إلى وثائق الحزب الشيوعى التى احترق معظمها، حيث كان ابنها منخرطا فى صفوفه.. ويتصاعد إيقاع الفيلم فى اللقاء بين مريم وأسعد، فى معرض لصور المفقودين.. تحاول انتزاع أية معلومات عن ابنها، لكن الرجل، بملامحه المنهكة، الجامدة، يؤكد أنه لم يلتقيه، أو على الأقل، لا يتذكره. عندئذ تنفجر الأم بالغضب، وتبدو لها، ولنا، فكرة المصالحة، والسماح، ونسيان الماضى، مجرد تواطؤ فى جريمة صمت.

تتسع دائرة الفيلم، المنسوج بدأب ومهارة، لتشمل المحيط البشرى لأسعد ومريم، وربما يعانى «ليالٍ بلا نوم» من طول زائد، يخفف عنه رهافة رصد الوجوه من ناحية، وحيوية الحركة من ناحية ثانية، سواء من الشخصيات أو المصور.. ويأتى استخدام أغنية «يا مسافر وحدك»، نموذجيا تماما، فالأغنية تبدو كما لو أنها أبدعت خصيصا للفيلم، ترددت، بصوت جنون، ملىء بالشجن، بصوت مغنية لا أعرف اسمها، وتصل إلى قمة تأثيرها، وهى تتهادى مع مشهد صور المفقودين الكبيرة، داخل براويزها، على ظهر عربة نقل، ففى طريقها إلى مكان ما.. وجوه شابة، نضرة، مفعمة بالحيوية. كنت أتمنى أن يكون هذا المشهد، بالأغنية، هو نهاية الفيلم المتميز.. ولكنه استمر، فلا بأس.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات