في مضمار الكذب والحاجة إليه! - العالم يفكر - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 10:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في مضمار الكذب والحاجة إليه!

نشر فى : الأحد 22 أكتوبر 2023 - 9:30 م | آخر تحديث : الأحد 22 أكتوبر 2023 - 9:30 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة وفاء البوعيسى، ذكرت فيه أن تجريم الكذب بشكل مطلق أمر غير منطقى، إذ يكون مشروعا فى سياقات معينة لتحقيق استفادة عامة، بينما يشكل أزمة فقط إذا أدى إلى إلحاق ضرر جسيم بالغير أو بالمجتمع كافة... نعرض من المقال ما يلى:
ثمة مبدأ أخلاقى متجذر يعتبر الكذب سلوكا غير مشروع، كما تميل الغالبية إلى نبذ الكذب وكل أشكال الخداع. لكن الشخص العادى، وإن كان لا يقتل ولا يسرق ولا يغتصب، إلا أنه غالبا قد يكذب. فالكذب سمة من سمات التفاعل البشرى، إذ يكذب الأصدقاء على أصدقائهم ليكونوا مهذبين، ويكذب الطلاب على أساتذتهم بشأن فروضهم المدرسية، ويكذب الأزواج على زوجاتهم بشأن مكان وجودهم أو قدرتهم المالية. يمكننا أن نستمر فى تصور سيناريوهات أخرى تنطوى على الكذب، لكن هل من المتصور هنا أن نطالب بتجريم تلك الأكاذيب وغيرها؟
إن فكرة تجريم الكذب عموما تبدو فكرة راديكالية، إلا أنها ليست بعيدة المنال عندما ندرك أن الكذب مجرّم بالفعل فى العديد من السياقات، مثل: حنث اليمين، والإدلاء ببيان كاذب، والافتراء على الغَير. لكن المشرّع لا يجرّم أكاذيب أخرى كالغيبة والنميمة، والكذب بشأن العمر والوضع المادى بين الأفراد، والوعود الكاذبة التى تطلق يوميا.
وليس من الخفى فى كثير من الدول، أن مسئولى إنفاذ القانون أنفسهم يمارسون الكذب بشكل منظم، مثلا: الأطباء والممرضات يكذبون على المرضى للتخفيف عنهم، ويكذب السياسيون والدبلوماسيون لاغتنام ميزة فى مفاوضات السياسة الخارجية، كما تكذب الحكومات على شعوبها بشأن صفقات أبرمتها مع دول أو جماعات معادية.
الكذب إذا متكرر ومنتشر فى مؤسسات الدولة للمصلحة العامة، وفى المجال الخاص. بما يشير إلى أن الكذب يعمل بشكل جيد فى المجتمع، بما لا يستحق، ولا يستلزم العقاب عليه.
لكن الإشكالية تكمن فى أن الكذب موضوع يصعب التعامل معه، لأنّه يجسد الالتباسات الأخلاقية التى يصعب حلها، بالنّظر إلى جدواه فى حياتنا، والإشكالية الأكبر أن الكذب قد يكون مقبولا أخلاقيّا فى سياقات معينة، فى الوقت الذى لا يعتبر كذلك فى سياقات أخرى!
إذن، الكذب فى حد ذاته، ليس ما تتم مقاضاته، بل الفعل المرتبط به، والذى يحمل نية التسبب بضرر جسيم، ويحدث الضرر بالفعل. من هنا فقد جرمت أكاذيب فى العديد من السياقات بسبب خطورتها على المجتمع، لكنها فى سياقات أخرى، كانت مباحة لفائدتها للمجتمع، حتى أنها تستخدم فى بعض المهن، مثل: صناعة الدراما والكوميديا وعلاج مشكلات الصحة النفسانية والتوجيه الأسرى. ومن هنا فإن المهمّة صعبة فى تحديد الخطّ الدقيق بين الأكاذيب المقبولة وغير المقبولة.
• • •
لم يبق أمامنا سوى النظر إلى الأضرار التى تسببها كذبة ما فى حياتنا، والتى تتمثل فى شقّيْن: الأول، إيذاء جسيم للضحية على الفور، والثانى، إحداث الضّرر فى المجتمع على المدى الطويل من خلال تآكل الثقة والتعاون بين الناس.
وقد جادل «جون ستيوارت ميل» بأن شرط الضّرر، هو المبدأ الحاسم الوحيد، وحيث لا يمكن تجريم الكذب الذى لا يفى بشرطه ذاك. إن مبدأ الضّرر، هو مبدأ تشريعى صالح، ويعمل كنقطة انطلاق مفيدة، إلا أنه ليس كافيا، حيث يجب أن يكون حجم الضرر كبيرا، وأن يتجاوز حد الإزعاج والاشمئزاز والضيق الذى تأتى به صروف الحياة، ويتمّ التعبير عنه قانونا بمفهوم «الضّرر الجوهرى».
إن تجريم الكذب إجمالا، وإن كان يفى بواجب أخلاقى، إلا أنه يُعد تدخلا قمعيا مُفرطا فى المجال الخاص، حين تحَاكَم ملايين المحادثات الشخصية والتفاعلات الاجتماعية التى لا حصر لها، وستتحوّل الدولة إلى دولة بوليسية. لكن من الحِكمة أيضا فسح المجال للقانون المدنى للنظر فى أكاذيب ما، وملابساتها، ليقرر تعويضا للطرف المتضرر أو تقديم اعتذار له.
عدا ذلك، فثمة حاجة ماسة للكذب الذى يبعث كل ذلك الإلهام فى الاختراعات وفى الأعمال الترفيهية القائمة على الابتكار والأساطير وقصص الخيال العلمى والفانتازيا السياسية، وفى صناعة النكتة ومقالب الكاميرا الخفية. والحاجة للكذب أكثر إلحاحا لملء خيال الأطفال بحكايات الجدات المختلقة لزرع القيم فيهم، وبرامج الكارتون التى تتحدث فيها الحيوانات إليهم، لترشدهم لاحترام البيئة، وأن الحفاظ على الحياة، هى مسئوليتهم المستقبلية.

النص الأصلى:

التعليقات