ملاكمة الليل - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ملاكمة الليل

نشر فى : الخميس 22 ديسمبر 2011 - 9:40 ص | آخر تحديث : الخميس 22 ديسمبر 2011 - 9:40 ص

هناك قصة، وراءها حقيقة، وفيهما قانون !

 

فلنبدأ بالقصة التى كتبتها منذ ما يقارب ثلاثين سنة:

 

ملاكمة الليل

 

لم يعد أمامنا فى مواجهته وحتى آخر الليل إلا أن نتلاكم.. يضرب بعضنا بعضا نحن الذين جعلنا مصير السجن أكثر تقاربا من الإخوة الأشقاء.. نضرب ضربا جنونيا بعد أن فشلت كل أساليبنا فى مواجهته، منذ بدأنا نحس بتكاثره وهياجه مع أول الليل.

 

لقد أبقينا مصابيح الزنزانات الضئيلة مضاءة لعله يبقى ملتصقا بالسقف كشأنه فى النهارات الكثيرة الماضية، لكنه لم يفعل. ثم بدا كأنه يتوالد من الهواء ليتخم الهواء ويمص دمنا، ونوشك أن نتنفسه لفرط كثافته التى جعلت الهواء أمام أبصارنا دون مبالغة أسود.

 

رحنا نضربه بالمنشات التى صنعناها من مزق ملابسنا ونسالة أطراف البطاطين. وأشعلنا كل ما لدينا من خرق وأوراق كنا نخبئها لنهرِّب فيها رسائلنا، لعله يهرب من الدخان، حتى أوشك أن يخنقنا ويعمينا الدخان. ومع ذلك لم يتوقف وواصل شن غاراته على جلودنا.. على دمائنا. وكان كثيفا ولجوجا ومؤلما، وأسوأ من إيلامه كان صوت أزيزه الذى بدا كأنما يدوِّم داخل قواقع آذاننا نفسها.

 

كأنه عدو بشرى.. كريه، وقاس، وغبى، انطلق أكثر من صوت بيننا يسبه سبابا مغلولا ومعبأ بالكراهية، بينما كانت أيادينا لا تكف عن محاولة سحقه بصفعات ولطمات وضربات نوجهها بأنفسنا لأنفسنا حيثما حط..على الوجوه أو السيقان أو الصدور أو الرقاب أو الأذرع. ومن شدة الضربات وكثرتها بدا أننا نفقد شيئا فشيئا شعورنا بالألم.

 

ولعل هذا الشعور بالخدر الذى كانت تجلبه إلى أبداننا الضربات، ولعله مطلق اليأس والرغبة فى مقاتلته حتى النهاية حتى لو دفعنا ثمنا لإيقافه أن تتحطم عظامنا نفسها.. لعل هذا كله هو ما قادنا إلى فعل التلاكم عندما اكتشفنا أن كل واحد منا أقدر على رؤيته فوق جسد زميله، أمامه، ومن ثم أقدر على تحديد موقع الضربات الصائبة. وشرعنا نتلاكم.

 

 كانت اللكمات مترددة متباعدة فى البداية، وما لبثت حتى صارت جنونا جماعيا تتخلله الصيحات مع كل شعور بابتلال القبضات من سوائل انسحاقه المدمَّمة اللزجة. ورحنا برغم بدء ظهور الكدمات، نحس باختفاء الآلام، ويتصاعد إحساسنا باختفائها مع كل ضربة ساحقة لأكبر كمية منه، سواء توجهها قبضاتنا أو تتلقاها الأجسام.

 

 مكثنا نتلاكم برغم إحساسنا بأن كثافته لم تتناقص، لكن مجرد أن هذه اللكمات صارت كأنها وجودنا ذاته، فى مواجهته، واصلنا توجيهها، وتلقيها، بآخر ما فى دواخلنا من احتقار له، وبآخر ما فى أبداننا من قوة، حتى أننا تعاقبنا نتساقط من شدة الإنهاك، كما قتلى المعارك الضارية.. متناثرين ومتكومين فى أوضاع لم يتهيأ لها البشر عند النوم، بأذرع لُويت تحت الأجساد، وأرجل ملتفة، وأفواه مفتوحة، وعيون لم تكمل إغماضها.

 

 لم يكن نوما قريرا بالتأكيد ذلك الذى تساقطنا فيه منهكين، لأننا فزعنا على النور يتدفق عبر الأبواب الحديدية التى فتحوها لنا لنذهب إلى دورات المياه فى الصباح. ورحنا نخرج من الزنزانات أشباه نيام، ولم نكمل استيقاظنا إلا بعدما أحسسنا بأقدامنا تدوس فى طبقة كثيفة من رماد أسود هش يغطى الطرقة الطويلة كلها، بطريقة توحى بأنه لحظة كنا نتساقط منهكين، غائبين، كان هو يتساقط ميتا موتا جماعيا خارج الأبواب، وكأنه مطر أسود يابس ينهمر على بلاط الطرقة.

 

 ●●●

 

تلك القصة، تكاد تكون تسجيلا حَرفيا لليلة بشعة قضيناها فى عنبر «التأديب» بمعتقل المرج، وهو عنبر حديث البناء وحداثته تجعله أشبه بثلاجة للموتى الأحياء، فهو من أسمنت وحديد وبلاط تخلو مجتمعة من عتاقة وثقل أبنية السجون القديمة، وتجعل برد الشتاء قارصا كما أسياخ من جليد لاتكف عن اختراق الأجساد والنفاذ إلى العظام، وقد كان ذلك الشتاء فى نهاية عام 81 وبداية 82، قاسيا جدا هناك، وزاد من قسوته شعورنا ببلادة تلفيق القضية التى حشرونا فيها بالتهمة الكاذبة المكررة ذاتها «تشكيل تنظيم لقلب نظام الحكم»، بينما لم يكن هناك تنظيم ولا يحزنون، ثم إننى كنت قد فارقت الاهتمام بالسياسة عموما وصببت جل اهتمامى بالأدب والطب. والأنكى من ذلك أننى كنت خارجا قُبيل اعتقالى بيومين من عملية جراحية جرحها لم يُنزَع ضمادُه.

 

 فى تلك الليلة من ليالى سجننا، داهمنا ذلك الهجوم الضارى من جحافل بعوض جعلت الجو حولنا معتما أسود برغم اشتعال الضوء، غيوم من مئات آلاف البعوض إن لم يكن ملايين، فى ظاهرة كأنها خارجة من جوف الأساطير الإغريقية أو الخيال الأسود الجامح. غليان بشع من الطنين واللسع وإزهاق الروح والحقد الذى خلناه يتقصدنا كأنما بتدبير وتواطؤ مع السلطات الغاشمة فى ليلة شديدة القسوة لم يبدُ لها آخر، وكان ما وصفته فى القصة يكاد يكون حرفيا، كما أن النهاية المذهلة كانت بالضبط كما وصفتها: موت جماعى حاشد لذلك الوباء الذى داهمنا بهياجه الضارى حتى مطلق اليأس، وأذهلنى كما أذهل غيرى فى الصباح ذلك المشهد لطبقة ركام البعوض الميت التى غطت بلاط ردهة العنبر بين صفى الزنزانات تحت شبكة الفولاذ التى تُصفِّح السقف وتتبدى عبرها زرقة السماء المنيرة الرحيمة، فكأن عاصفة من تراب أسود أو رماد حريق حطت رحالها على ذلك البلاط فاتح اللون فجعلته بساطا من سواد، رحنا نحس بهشاشته ونحن ندوس فيه باستغراب ورهبة، وشىء من التشفى!

 

 الآن، أتذكر هذه القصة، وتلك الليلة، والقانون الذى تيقنت من ثبات استنتاجه عبر قراءاتٍ ورصدٍ لظواهر مماثلة، فما من عصف لوباء، وما من هياج لظاهرة طبيعية، إلا وكان بلوغها أوج ضرواتها إيذانا بنهايتها. ونحن الآن فى مصر تتعاقب وتتجمع على أمتنا مظاهر من التغول مختلفة ومؤتلفة، تعصف بثورة 25 يناير والأفق المنطقى الذى كان مأمولا منها، ولصالح رغبات أنانية، من أفراد وجهات واتجاهات تتوخى القوة قبل الحق، وتتبع فى ذلك وسائل من عنف الفعل وعنف القول بلغت حد الهياج.

 

 تفحُّش وتوحُّش فظيعان، فى صورة جنود يسحلون البنات ويدوسون بأحذيتهم الثقيلة فى لحمهن أو يبولون على رؤوس الخلق جهارا نهارا أو يتباذؤون بالأصابع فوق أسطح البنايات الرسمية التى اتخذوا منها أبراجا حربية للرشق بالحجارة ! وبموازاة ذلك العدوان المادى، كان هناك قصف معنوى متوحش ومُتفحش من جانب آخر، ضد الوسطية المصرية الحميدة، دينا ودنيا..

 

 قصف قام ويقوم به بعض من يزعمون أن دعواهم خالصة لله ورسوله، وما هى إلا مشوبة بزهو أنفسهم بأنفسهم وحرصهم على استلاب وعى مُريديهم، بأداء مسرحى تليفزيونى زاعق لا ينم عن صدق حقيقى ولا يليق بأى دعوى روحية، بينهم من أفتى فى أمر الأدب بلا معرفة ولا أدب، ونعت حضارة فجر تاريخنا وتاريخ الدنيا بالعفونة، وأفتى بأن الديمقراطية كفر، بالرغم من أنه كان يتعاطاها ويدعو الناس للإقبال عليها لانتخابه، فأسقطه الناس! ومثله ذلك الذى يشوح ويلوح بيديه وهو يزعق فى أحاديثه، ولا تعرف لماذا يزعق مادام أمامه ميكروفون، إلا إذا كان لا يريد أن يترك أى مساحة لمستمعيه ومشاهديه للتفكُّر والتدبُّر فى بضاعته سطحية المضمون واللاعبة على وتر واحد هو التفزيع بالموت للحط من شأن الحياة، وكأن الحياة ليست هبة ونعمة من خالق الحياة تستحق الاحتفاء، ولعله يستمرئ هذا الزعيق لافتقاده اليقين فيما يلقيه على الناس باندفاع وتسرع، وقد خاض فى الأعراض بكذب اضطرته الحقيقة أن يتراجع عنه فغمر تراجعه بمديح ذاته، وكأن أعراض الناس لعبة فى جئير حنجرته، وهاهو مرة أخرى يهرف بما لا يعرف فيزعم أن جامعة القاهرة قد تأسست لهدم الشريعة الإسلامية! ومن فرط ضراوة غلظته وصلفه أنه قال ذلك وهو ضيف على أسرة من أسر كليات هذه الجامعة العريقة نفسها!

 

 ما من هياج متوحِّش أو متفحِّش يبلغ ذروة الضراوة إلا كان إيذانا بنهاية ذاته أو أفول ظاهرته، وما أعجب أن تجتمع كل هذه الهيجانات الضارية فى وقت واحد، فلعلها إرادة الله تؤذن بقرب انزياحها جميعا، لنباشر ما تأخرنا فيه كثيرا كثيرا لحد الخيبة والمرارة : أن نبدأ البناء والنهوض على قاعدة التوافق الوطنى واحترام حقوق الإنسان كإنسان والمواطن كمواطن، بلا تغوُّل سُلطة أو تسلُّط، ولا استفحال دعاة تكفير وتنفير وفرقة، ولا تمدُّد لعشوائية الاحتجاج والرفض، ولا خسارة شبه مجانية لأنقى وأطهر ما فى هذه الأمة. 

 

(ملحوظة: المسيرة النسائية التى سارت فى حماية الشباب للتنديد بانتهاكات قوات من الجيش لكرامة المصريات والمصريين، جاءت نموذجا حضاريا مخالفا لعشوائيات الاحتجاج والرفض، وكانت عظيمة التأثير وعصيَة على التشويه والاختراق، ليتها تُتخذ مثالا جديرا بالاتباع).   

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .