صنعة التطفل - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأربعاء 29 مايو 2024 2:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صنعة التطفل

نشر فى : الإثنين 23 أغسطس 2010 - 10:34 ص | آخر تحديث : الإثنين 23 أغسطس 2010 - 10:34 ص
الطفيلى هو الذى يدخل الولائم دون أن يدعى إليها، وهو وصف منسوب لاسم «طفيل»، وهو رجل من أهل الكوفة من بنى عبدالله بن قطفان كان علما على هذا السلوك، فلقب بطفيل الأعراس، واشتقوا من اسمه فعلا فقالوا «طَفَّل».

وقد كثر المتطفلون حتى إنهم أصبحوا أصحاب صنعة لها مهارات وأعراف وتقاليد يتوارثونها فيما بينهم، ويمكننا التعرف على بعض أسرارها من ثنايا كتاب «التطفل وحكايات الطفيليين» للخطيب البغدادى المتوفى عام463هـ. وأول شروط هذه الصنعة هو حسن اختيار الفريسة صاحب الوليمة، حيث يقول أحد خبرائهم لرفيق ساذج:

أسفى عليك وقد أرقتَ صبابة من ماء وجهك فى سؤال بخيلِ
فوجدت طعم سؤاله من لؤمهِ مُرّا كطعم الحنظل المبلولِ
هلا سألت عن الصناعة أهلَها فَيُخَبِّروك بصنعة التطفيلِ
القوم لا يغشون إلا منزلا يَغْشَى العيونَ دُخانُه من ميلِ

فصنعة التطفل تشترط بداية ألا تذهب للوليمة إلا وأنت على يقين من أنها كريمة عامرة ترى دخانها على بعد ميل كامل حتى لا يضيع جهدك هباء، وإذا تيقنت من الأمر فلا مانع من أن تسعى إليها مهما بعد مكانها، بل إن هذا واجب عليك، مع مراعاة بعض الشروط الفرعية الأخرى التى يوضحها الدرس التالى:

لا تَسْمَعَنَّ بدعوة ووليمة فى السند إلا كنت ممن يَجْمَعُ
حتى تفوز بما لديهم عنوة وقلوبهم حقا عليك تَصَدَّعُ
وعليك بالفالوذج عند حضوره ودع البقولَ فإنها لا تَنْفَعُ
والجدى فاضرب فيه ضربك بالعدى لا تُقْلِعنَ عنه إذا قالوا: ارفعوا

وهذا الدرس يتعرض بالتفصيل لأنواع الطعام التى يجب على الطفيلى أن يصوب سهامه نحوها مثل لحم الجدى والفالوذج الذى يسمى أيضا بالفالوذه وهو تعريب لكلمة «بالوذة» الفارسية التى صارت فى عصرنا الحديث «بالوظة»، أما ما حذره من الابتعاد عنه تماما فى مثل هذه المناسبات السعيدة فهو البقول التى نعرفها جيدا.
وصحيح أن هذه الوليمة عامرة ولكن الطفيلى ليس مدعوا إليها، لهذا فإن هناك مجموعة أخرى من النصائح تيسر له سبل الدخول إلى هذا الكنز نطالعها فى الدرس التالى:

لا تجزعن من القريب ولا من الرجل البعيدِ
وادخل كأنك طابخٌ بيديك مغرفة الثريدِ
متدليا فوق الطعام تدلِّى الباز الصَّيُودِ
لتلف ما فوق الموائد كلها لفَّ الفهودِ
واطرح حيائك إنما وجهُ المُطَفِّلِ من حديدِ
وهذا الدرس لا يقدر على تطبيقه إلا الراسخون فى التطفل، حيث يحتاج إلى كثير من التماسك وضبط النفس وقوة الأعصاب حتى يتمكن المتطفل من التصرف أمام الجميع بإحساس صاحب البيت، وكأن صاحب البيت نفسه ضيف عليه.
لهذا فقد كان الطفيليون الأقل خبرة وتماسكا يلجأون إلى حيل أخرى غالبا ما تتحلى بالطرافة للتسلل إلى تلك الولائم، مثل قول أحدهم:
ولما أنا كتبتُ فلم تجبنى ولم تنظر إلىَّ بعينِ أُنْسِ
رأيت الحزم أن أمضى ركابى إليك وأن أكون رسولَ نفسى
وأيضا مثل تلك الحيلة التى يرويها لنا شاعر أصابته سهام التطفل، سواء كان صاحب وليمة نُسِفَت، أو مدعوا لم يتحصل على طعام يسد به جوعه، حيث يقول مخاطبا الطفيلى فى حنق شديد:
أراك الدهر تطرق كل عرسٍ كأمر الله يطرق كل لَيلَه
فإن غلظ الحجاب وكان صعبا ولم تقدر هناك على دُخَيْلَه
أخذت لكى تخاطبه خِلالا وقلت: نسيت عندكمُ نُعَيْلَه
وإذا استوعب الطفيلى كل أسرار الصنعة وأتقن حيلها، أصبح علما من أعلام التطفيل الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:
طفيلىٌّ على فَرَسٍ يدورُ يُقَدِّرُ عند من غلت القُدورُ
بأوقات الموائد حين يُؤتى بها للأكل عَلامٌ خَبيرُ
له فى الغيب اصطرلابُ وَحْىٍ بمائدةٍ إذا وُضِعَت نذيرُ
فبطليموس فى تحديد وقتٍ إليه بغيرِ ما غلطٍ يُشيرُ
إنها حقا صنعة، بل صنعة صعبة يرتقى من يجيدها إلى مصاف الخبراء والعلماء.
التعليقات