الإنجاز الغائب - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 9:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنجاز الغائب

نشر فى : الخميس 23 أغسطس 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 23 أغسطس 2012 - 9:00 ص

أشفقت كثيرا على من اشتبكوا فى جدل دستورى حول دستورية القرارات الأخيرة لرئيس الجمهورية، ذلك لأن حسم هذا الجدل مستحيل، فجوهره جدل بين «شرعية الثورة» و«الشرعية الدستورية» ولكل منطقها، فالأولى تبيح الخروج على الدستور والثانية تقتضى الالتزام به، وجوهر الأمر أن رئيس الجمهورية خرج على «الشرعية الدستورية» القائمة انطلاقا من «منطق الثورة»، غير أن ثمة ملاحظتين فى هذا الصدد أولاهما أنه قد استخدم «الشرعية الدستورية» للوصول إلى منصبه ثم انقلب عليها، والثانية أن الاستناد فيما فعل إلى «شرعية الثورة» تحيطه شكوك.صحيح أن الأغلبية الضئيلة التى انتخبته وكانت بينها عناصر ليبرالية فعلت ذلك حماية للثورة من منافسه، لكننا الآن إزاء برنامج «الإخوان المسلمين» وليس برنامج الثورة، وهذه قصة أخرى. وقد قابلت عناصر ذات شأن من النخبة المدنية الثورية قرارات الرئيس بالتأييد سواء المطلق أو المقيد بمخاوف من القادم، ولعل السبب الرئيسى فى هذا التأييد أن شعبية المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق كانت قد تدهورت كثيرا بعد شهور الثورة الأولى، ولذلك أوجدت إزاحته عن المشهد السياسى ارتياحا خاصة أنها أنهت ما سمى «بحكم العسكر»، وقضت على ازدواجية السلطة. أما المخاوف فمن تركيز السلطتين التشريعية والتنفيذية فى يد رئيس الجمهورية و«أخونة الدولة».

 

●●●

 

وأود النظر فى هذه التطورات من زاوية تحليلية مختلفة هى محاولة اختبار نموذج شائع فى السياسة المصرية منذ عام 1952 فى حالة الصراع بين القيادتين السياسية والعسكرية، علما بأن القيادة السياسية فى كل الحالات السابقة كما نعلم كانت تنتمى أصلا إلى المؤسسة العسكرية، ومؤدى هذا النموذج أن الصراع يُحسَم ــ بغض النظر عن التفاصيل ــ لصالح القيادة السياسية وبسلاسة ظاهرة، ولدينا فى هذا الصدد خبرة ثلاثة رؤساء سابقين هم عبدالناصر والسادات ومبارك.

 

كان عبدالناصر قد عين صديقه الوفى عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة كنوع من تأمين الثورة، وبالتدريج بدأ عامر بحكم طبيعته الشخصية والمزايا التى أغدقها على من حوله يكسب شعبية داخل القوات المسلحة أخذت تتعاظم دون أن تمثل خطرا على النظام، وإن قيدت إرادة عبدالناصر فى تغيير بعض الأوضاع الخاطئة فى القوات المسلحة، وظل الحال كذلك حتى وقعت هزيمة 1967 التى لم يعد ممكنا بعدها السكوت عن أوضاع خاطئة، وكان كل من عبدالناصر وعامر قد تنحيا عن موقعيهما، غير أن الأول عاد بفعل الضغوط الشعبية بينما لم تفلح المؤسسة العسكرية فى إعادة عامر الذى حول منزله إلى قلعة عسكرية، وكان التخوف كبيرا من محاولة انقلاب عسكرى فى تلك الظروف العصيبة، وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد أمر عبدالناصر باعتقال عامر، وتمت تصفية بؤرة «التمرد» فى منزله وتطهير القوات المسلحة من أى أنصار له، وخرجت القيادة السياسية منتصرة فى هذا الصراع.

 

وفى حالة أنور السادات استمرت نخبة رجال الحكم فى عهد عبدالناصر فى مواقعها بصفة عامة، وعندما قدرت أن السادات بدأ ينحرف عن نهج عبدالناصر شرعت فى استعراض قوتها أمامه، وكان احتفال عيد العمال فى أول مايو 1971 مناسبة خُطِطَت بعناية كى يبدو أن السادات لا يحظى بأية شعبية فى أوساط العمال (هل يذكرنا هذا بأحداث جنازة شهداء رفح؟)، كما نما إلى علمه أن ثمة تآمرا عليه كان أحد مؤشراته هو خطة منعه من دخول التليفزيون إذا أراد أن يخاطب الشعب، وعندما قرر السادات أن يصفى هذه النخبة كان ترتيبها أن يتقدم جميع أفرادها ــ ومن أبرزهم القائد العام للقوات المسلحة ــ باستقالاتهم لإحداث فراغ سياسى ينحاز فيه الشعب لها وهو ما لم يحدث، ولم يتردد السادات فى أن يلقى القبض على خصومه، وأن يعين فورا قائدا جديدا للقوات المسلحة، ومرت الأمور هنا بسلام أيضا. بل لقد قُدِرَ للسادات أن يدخل فى صراع ثانٍ مع القيادة العسكرية التى عينها بنفسه (الفريق محمد أحمد صادق) عندما علم فى اجتماع له بالمجلس العسكرى أن الفريق صادق لم يبلغ تعليماته بخصوص حرب أكتوبر إلى أعضاء المجلس، فقام بتغييره على الفور رغم ما كان له من شعبية فى الأوساط العسكرية بسبب موقفه المعادى لاستمرار دور الخبراء السوفييت فى القوات المسلحة المصرية.

 

أما مبارك فقد دخل هذا الصراع فى 1989 بمناسبة تغييره المشير عبدالحليم أبوغزالة القائد العام للقوات المسلحة آنذاك، ربما لأنه كان يخشى كثيرا من شعبيته فى صفوف العسكريين، أو لأسباب أخرى قد يكون بعضها خارجيا، وكان وجه الصعوبة فى هذا الصراع أن شعبية أبوغزالة فى المؤسسة العسكرية المصرية كانت طاغية، وأن مبارك أتى بقائد عام جديد ترك الحياة العسكرية منذ سنوات عديدة، ومن المنطقى أن ينقطع علمه العسكرى فى تلك السنوات، ومن ثم يثير تعيينه تحفظات لدى عديد من قيادات القوات المسلحة، لكن مبارك خرج منتصرا.

 

●●●

 

هكذا تقع القرارات الأخيرة لرئيس الجمهورية ضمن هذا السياق التحليلى، فقد مر انقلابه على المجلس الأعلى للقوات المسلحة بسلاسة ظاهرة، خاصة أنه ركز على إقالة القائد العام ورئيس الأركان، بينما عين بعض أعضاء المجلس فى مناصب رفيعة، وقد يكون الترحيب الذى لقيته قرارات رئيس الجمهورية راجعا بصفة خاصة إلى الثقافة السياسية المتجذرة للشعب المصرى، والتى تعلى من شأن الحاكم الأعلى، وتركز فيه كل آمالها (هل نذكر توقعات البسطاء إبان حملة انتخابات الرئاسة الأخيرة بدور فاعل يقضى به رئيس الجمهورية القادم على كل متاعبهم؟)، لكن مشكلة رئيس الجمهورية فى الوضع الراهن أن القيادة السياسية فى الحالات السابقة كانت تحقق إنجازا مبهرا بعد حسم الصراع مع القيادة العسكرية لصالحها، وكان الاستثناء الوحيد فى هذا هو حالة مبارك، فقد أعاد عبدالناصر بعد أن أصبحت له اليد العليا فى القوات المسلحة بناءها كأفضل ما يكون، وخاض بها حرب الاستنزاف التى أنهكت إسرائيل من ناحية، وكانت خير ميدان للتدريب العملى على القتال من ناحية أخرى، وهو ما ظهر أثره فى حرب أكتوبر. أما السادات فقد استكمل ــ بعد استبعاد القيادتين العسكريتين المعارضتين له ــ استعداداته لخوض حرب أكتوبر التى خرج منها بشرعية جديدة. ومعنى هذا أننا ننتظر من رئيس الجمهورية الحالى إنجازا استراتيجيا بقوة الإنجازات السابقة، ولديه فى هذا الصدد ملفات عديدة تضمن برنامج المائة يوم بعضها (ولم يعد هناك شك فى أنها بدأت)، بالإضافة إلى إنجاز دستور توافقى يعبر عن الشعب المصرى كله وليس عن قواه السياسية الإسلامية، وتنمية سيناء ومراجعة المعاهدة مع إسرائيل.

 

●●●

 

لكن النذر حتى الآن لا تطمئن، فرئاسته «لكل المصريين» ما زالت بعيدة، إذ تشير تفضيلاته فى المناصب القيادية حتى الآن إلى غلبة القوى الإسلامية رغم وعوده للجبهة الوطنية، والتعيينات الجديدة لرؤساء تحرير الصحف القومية جنبا إلى جنب مع تعيين وزير للإعلام يشهد تاريخه المهنى كله بانتمائه للإخوان المسلمين، مع قرارات منع نشر مقالات لبعض من كبار الكتاب بحجة أنهم لا ينتمون للمؤسسات الصحفية ذات الصلة (كانوا يكتبون فيها بانتظام قبل ذلك)، وإغلاق قناة تليفزيونية دون حكم قضائى، وملابسات مصادرة أحد أعداد جريدة الدستور وتداعياتها، والحديث عن تطهير للقضاء يعد له وزير العدل صاحب التعليقات غير المقبولة على المحكمة الدستورية العليا وأحكامها ــ كلها مؤشرات تفيد بأن الإنجاز المتوقع بعد حسم الصراع على السلطة هو «أخونة الدولة»، وذلك بالإضافة إلى «الدولة الموازية» و«جيشها المدنى» الذى يتولى مهمة ترويع الخصوم، وخالد صالح خير شاهد على ذلك. مصر الآن فى مفترق طرق ولن ينصلح حالها بمناشدة رئيس الجمهورية أن يفعل هذا ويترك ذلك، وإنما ينصلح بوحدة القوى المدنية فى مواجهة هذه المؤشرات غير الديمقراطية، وقد أشرت غير مرة إلى غياب هذه الوحدة حتى الآن، وعدم وجود ما يشير إلى جهود تبذل من أجل تحقيقها، وهو وضع يتمنى المرء ألا يستمر حتى لا تندم هذه القوى فى مقبل الأيام حين لا ينفع الندم.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية