هل نستعيد جمالنا؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 4:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل نستعيد جمالنا؟

نشر فى : الخميس 24 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 24 يناير 2013 - 8:00 ص

كانت الدعوة تشريفا لا تكليفا لهذا رحبت بها بشدة، لكننى لم ألبث حتى اعتذرت عنها. ففى العام الماضى، وقبل الذكرى الأولى لانطلاق ثورة يناير خطَّطَتْ دار الشروق بالتعاون مع جريدة الشروق لإصدار كتاب مصوَّر ضخم وفائق الجودة يسجل لوقائع الثورة بالصور، دون أى نصوص مصاحبة، بل مجرد سطر يوضح مكان وزمان التقاط الصورة كلما أمكن، وترك الصور تحكى الحكاية، ووقع علىَّ الاختيار لكتابة مقدمة الكتاب، فرحبت بحماس وعواطف جياشة، لأن ذلك كان تشريفا حقيقيا لى ككاتب، أن يُقترَن اسمى بسجلٍ نابضٍ لثورة عظيمة، وقد كانت ثورة برغم كل تقعُرات المُنظِّرين باردى القلوب، وكانت عظيمة لما تجلت به من تألقات حضارية أعادت لأرواحنا انتعاشها، وجعلت العالم يلتفت مبهورا إلى فيضاننا الإنسانى الألَّاق. وحتى أشحذ ذاكرتى وانفعالى بما سأكتب عنه، طلبت معايشة الصور لفترة كافية، فحصلت على قرص مدمج عليه كل الصور التى سيضمها الكتاب، ومعظمها من تصوير فريق مصورات ومصورى الجريدة، وهؤلاء لم يكونوا ينزلون الميدان لأداء مهمتهم الصحفية فقط، بل كانوا من صانعى الحدث العظيم، وأتذكر أن الجريدة كانت وكأنها بيت ثورى يفتح على ميدان التحرير، تشغى بحركة دائبة طوال الليل والنهار، أفواج ذاهبة إلى الميدان، وأفواج عائدة منه. ولذلك لم يكن غريبا أن مظاهرة «أولاد مبارك» المتجهين من «مصطفى محمود» إلى التحرير قُبيل موقعة الجمل، انعطفت وحاصرت الجريدة مُحاوِلةً الاعتداء عليها، لولا رباطة جأش شباب الشروق ومؤازرة سكان المنطقة.

 

أخذت القرص المُدمج وفرَّغت له نفسى عدة أيام، أتأمل صوره وأمعن فى التأمل لعل ذهنى يفيض بالكلمات التى أود أن أكتب، لكن بدلا من ذلك كانت تجيش الدموع، فالصور راحت تستدعى نقيضها الذى آلت إليه الثورة بعد شهور قليلة من سقوط نظام مبارك، خاصة مع الاستفتاء المشئوم الذى أسماه أحد دعاة الفتنة والفُرقة «غزوة الصناديق». الإشراق تحول إلى اكفهرار، والتسامح الحلو جنح إلى تعصب مقيت، الصدق أزاحه الكذب، والصِبا المضىء حلت بمكانه عتمات الشيخوخة الشقية، والرُقِى أزاحته الجلافة. باختصار: بدأ اغتيال الجمال الذى كان آية تلك الثورة. ولم أستطع الكتابة، فاعتذرت، وفاجأنى أن اعتذارى تم تقبُّله بتفهم لا إجهاد فيه، لأن ما أبديته من سبب، كان هو نفسه الإحساس الذى يعانيه الجميع: الأسى لاجتياح القبح الماثل فى أيام التكالب على المغانم من أقل الناس إسهاما فى هذه الثورة، لكل ما كان من جمال العطاء الطاهر لصانعى الثورة من شباب مصر الأنقياء الأبرياء من كل تحزب أو تعصب أيا كانت انتماءاتهم، والذين صاروا شهداء أبراراً ومصابين ومُطارَدين بالإفك ومُحاصرين بضباع الظلمات وذئاب النرجسية العجوز. مسخٌ هائل ومعتم وبشع للجمال الذى كان، والذى كلما نظرت إلى نضارة وبهاء وجوهه فى الصور، تترقرق فى مآقىَّ الدموع، إن لم يغلبنى النشيج. كيف وقعت هذه الجريمة الشنعاء؟ ومن اغتال الحلم؟ وهل انتهى كل شىء؟

 

لا لم ينته كل شىء، إحساسى الذى يقودنى فى متاهة ما صرنا إليه يقول لى ذلك، واستفتاء القلب يومئ بالموافقة، وبوارق الأمل لم تنطفى. لهذا أستذكر طلاقة الجمال الذى كان، لأحصر انعقاد القبح الذى هو كائن، لعلى استعيد الإحساس بصفاء النضارة، فتُذرى بعكارة الرميم. فما الذى حدث، وما الذى يتوجب حدوثه؟ من أى نبع فاض مسيل الجمال، وكيف نعود للارتواء منه مُجدَّدا؟ نحن كبشر، كما أرضنا العطشى للارتواء والإيناع والإثمار الخصيب؟

 

الآن أعود إلى الصور بقلب يتثبت برغم حوشية حصار الفظاظة وضوضاء منفوخى الصدور الجُوُف والضمائر الخرِبة والأدمغة الخواء. لا أرجع إلى الصور على القرص المُدمج فقط، بل أعود إلى قرص الذاكرة الحية الصلب الذى يخبئ فى الوجدان قسمات الأصول. فى ميدان الثورة وشوارعها.

 

لا شائخى مكتب الإرشاد، ولا زعماء المتسلِّفين، ولا خِفاف متأنقى البين بين، كل هؤلاء لم يكونوا هناك، الكينونة الحقيقية لا كينونة إثبات الحضور فى اللحظة الآمنة. الكينونة خالصة الاستعداد للشهادة والبذل لقاء مُثلٍ عليا لا مغانم سفلى من سُلطة أو تسلُّط، التوحد مع قيم الحق المصاغة فى بلاغة النداء «حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، نشيد الثورة الذى أطلقه الشباب والقلوب الشابة فى ربوع مصر كلها من كل الأطياف، وكانوا بهذا النشيد فى حبور برغم ما كان يتربص بهم من قتل وبرد وجوع وتعب وأكاذيب، وضباع تقف على مبعدة فى انتظار ولائم جثث الشهداء وشراب الدم النازف. ضباع كانت تخبئ أعلامها السوداء والغبراء بديلا عن علم الوطن الأم لترفعها منتصرة لذواتها ضيقة الأفق وللطموحات التى تُمكِّن لها استبدادا أوسع بمشاريع صارت جنونا فى ظل تجربة البشرية التى أثبتت فشل القفز على الدولة الوطنية باتجاه بارانويا العولمات والأُمميات والخلافات والامبراطوريات التى لم تكن نهاية أى واحدة منها إلَّا فاجعةً وضياعا للشعوب. حتى الشباب الذين ينتمى بعضهم بالالتزام أو البيعة أو حسن الظن بمروجى مثل هذه المشاريع الخيلائية، لم يكونوا فى إبداع الثورة يرفعون هذه الألوية النابذة لراية الوطن الجامع المتراحم، ونتمنى أن يحافظوا على سلامة حسهم، ويكونوا هم أنفسهم قَدَر التصحيح لقادتهم وآبائهم، الذين سنفترض فيهم عدم الانتباه، لا خبث الطوية، فى أمر خطير شديد الخطورة، جرى ولايزال يواصل جريانه، ركضا وراء مخططات قديمة لم يعد لها مكان ولا يناسبها زمان فى هذا العالم. وهى مما أضاف إلى القبح قبحا، وزاد من انهمار الكوارث على رأس مصر والمصريين فى الفترة الاخيرة، وينذر بالمزيد.

 

هذه الكوارث فسرها البعض بسوء الطالع، ودائما كان هناك من يُعْزِيها لميراث حكم مبارك، وكأن من غالبوا وتكالبوا على الحكم كان ينبغى أن يتسلموا حكما يسيرا لا عُسر فيه، والحقيقة أن تلك الكوارث فى جانب منها هى نتيجة طبيعية للاندفاع الأعمى للحكام الجدد فى خلخلة بنيان الدولة الوطنية لتمكين دولتهم العشائرية، وهم فى هذا السبيل لم ينتبهوا للسحر الذى يمكن أن ينقلب على الساحر، فهذا الاندفاع الغشوم فى التمكين لم يتحسب لمخاطر التفكيك الذى يمارسه متنفذى الإخوان لإعادة هيكلة الدولة على هواهم بما يضمن لهم الامساك بمفاصلها والهيمنة على أركانها ودوام الحكم والتحكم فيها، كل هذا العبث بالأعمدة الأساس للدولة، وبخاصة انتهاك استقلال القضاء وتلفيق التشريع، مع انتفاء صدق وكفاءة متخذى القرار، وركاكة الحُكم، هو الذى أفشى الفوضى والاستباحة فى الدولة كما المجتمع، وهل هناك أوضح من الفوضى والاستباحة قاعدةً لانتشار سوء الأداء وقصف الكوارث؟!

 

الفوضى والاستباحة، هذا مما لا ينبغى تكراره ممن يُناهضون ذلك النهج التدميرى للدولة الوطنية، فأى اشتباك مع الشرطة مُدان خاصة وقد وعى معظم ضباطها وجنودها درس الماضى القريب الأليم كما هو بادٍ فى تنائيهم قدر المستطاع عن إقحامهم فى مواجهة الشعب لصالح عُصبة الحكم أيَّاً كانت، وهو ما يجب أن نشجعهم عليه وندعمهم فيه، فأى سماح لبعض الجانحين بالخروج على النهج السلمى للتظاهر هو تشويه مشين للمتظاهرين، سواء تم بعشوائية أو صبيانية سياسية، بل يمتد الأمر إلى ضرورة منع كل مندس أو مشبوه أو جانح للانحراف بسلمية وتحضر الثورة إلى طرق جانبية تدميرية، فهذا قبح يتوجَّب على طالبى استعادة الجمال أن يَحوُلوا دون تسلله إلى ساحتهم أو إلصاقه بأطرافهم وهم يخرجون لاستعادة جمال الثورة المغدورة، فى الذكرى الثانية لانطلاقها.

 

 الشباب المصرى من كل الأطياف هم الذين صنعوا جمال أيام ثورة 25 يناير الثمانية عشر المتسامية الجَسوُر، وهم الأقدر على استعادة هذا الجمال انتصارا للدولة المصرية الوطنية، دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لكل المصريين دون تفرقة، ودون شعوذات طائفية أو طغيانية. وإننى لأستعيد سماع أغنية الشهداء ولحنها الجميل ووجوهها الأنضر والأبهى، فأتيقن أن مصر تستحق أفضل مما نحن فيه، أخزى الله من أوصلونا إلى ما نحن فيه.

 

تدمع عينى وأنا أستعيد سماع الأغنية، فأرجو أن تعيدوها إلى الذاكرة، وتستحضرها مشاعركم لتغسل أدران كل تلك الغباوات التى حطت على صدر بلادنا فى أعقاب الأيام الثمانية عشر المُحلِّقة، وإذا دمعت عيونكم مثلما يحدث لى وأنا أستعيد سماعها، فامسحوا الدمع وانزلوا لاستعادة ما يمكن استعادته من جمالنا المخطوف بكل الحرص على سلمية وتحضُّر وعقلانية الحركة. فطلب الجمال لايمكن التماسه إلا بالجمال.

 

      يابلادى يابلادى أنا باحبك يابلادى

 

      فى جسمى نار ورصاص وحديد

 

     علمك فى أيدى واسمى شهيد

 

      بودَّع الدنيا وشايفك

 

      يا مصر حلوة ولابسة جديد

 

      لآخر نَفَس فىَّّ بانادى

 

      باموت وانا باحب بلادى

 

      طايرين ملايكه حواليَّه طير

 

      لحظة فراقك يا حبيبتى غير

 

     ها امشى معاهم وأسيبك

 

     وأشوف يا مصر وشك بخير. 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .