كرة القدم ضد الطاعون! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 1:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كرة القدم ضد الطاعون!

نشر فى : الثلاثاء 24 فبراير 2009 - 4:56 م | آخر تحديث : الثلاثاء 24 فبراير 2009 - 4:56 م

 كرة القدم تسببت فى فقدى البصر وأنا طفل لثلاثة أيام كاملة، فقد اتخذتُ ذات عصر موقعى المعتاد كحارس مرمى فى تقسيمة لفريقين من عيال الحتة..

وكان هناك ولد اسمه محمد الوزير نناديه «زِرُّو» يلعب حافيًا كما يسعى حافيًا فى الحياة، وكانت قدمه الحافية من حجر، وبمواكبة قفزة خلابة ارتميت فيها على الكرة قبل أن تدخل مرماى كانت قدم زِرّو منطلقة تتابع الهدف، وأصابت رأسى..

فقدتُ الوعى محتضنا الكرة، وأفقت على ماء بارد يغمر وجهى، لكننى وجدت الشمس غائبة فى رائعة النهار، ولم تكن فى هذه الظلمة أية نجوم، وعلى وقع الأقدام والأصوات سلكت طريقى إلى البيت راغبًا فى كتم سر هذه الظلمة حتى تنجلى عن نور لم أتوقع استطالة غيابه، ومع ضجة الاستيقاظ وصوت الراديو فى الصباح، ورائحة الفول المحبِّش والبيض البلدى المقلى بالسمن البلدى الذى كانت تعده لإفطارى أمهر طاهيات دنياى كلها، أمى، لم أر النور، فبكيت، وفضح بكائى سر عماى.

ثلاثة أيام من الرعب المظلم وتقليب رأسى بين أيادى أفضل أطباء المنصورة، وفى اليوم الرابع انبلج الصبح وشقشق الضياء، ولم أعد لملاعب الكرة بعدها أبدًا. قد تكون تجربة العمى المُزلزِل هذه، هى سر لامبالاتى بكرة القدم، وقد تكون طبيعة شخصية لمخلوق محب للعزف المنفرد والألعاب الفردية وسحر الظلال، فلم يكن ابتعادى عن كرة القدم زهدًا فى الرياضة التى مارستها بشغف جعلنى بطلًا للمحافظة فى الجمباز ومنافسًا فى بطولات الجمهورية للناشئين.

لم تشغفنى كرة القدم أبدًا، لكننى كنت ولا أزال أهلاويًّا لسبب بسيط وجميل، ففى إحدى مباريات الأهلى مع المنصورة، أنزلوا فريق المحافظة للجمباز لتقديم عرض بين الشوطين لإمتاع الجمهور، وبينما كنا نخرج من الملعب كان فريقا كرة القدم يتأهبان لنزوله، ولا أعرف ما هى المعجزة التى جعلت المايسترو صالح سليم يختصنى بابتسامة مضيئة، بل إنه داعب رأسى مشجعًا «برافو ياكابتن»..

وتحولت على الفور إلى أيقونة سحرية، صرت الولد الذى باركه صالح سليم، ولم أتابع إلا المباريات التى كان فيها صالح سليم، ثم تابعت بعض مباريات الخطيب لأنه كان صديقًا لصديقى الأكبر الأعز والأغلى يوسف إدريس، وعندما سألوا الخطيب يوما عما كان يود أن يكونه فقال: «كاتب قصة قصيرة»، وهذه فى حد ذاتها معجزة من معجزات كرة القدم المصرية، كما أن ابنىّ، ودون أن يواكبا أو يعرفا أبدا اسم التدليل الجماهيرى للخطيب، راحا يناديانى «بيبو».

هذه أقصى حدود علاقتى بكرة القدم التى ظل يحيرنى جنون ملايين المصريين بها خاصة الآن.

لكننى بين صفحات كتاب «مصر ولع فرنسى» لروبير سوليه، استوقفتنى بضعة أسطر عن وباء الطاعون الرهيب الذى اجتاح مصر عام 1835 وذهب ضحيته 35 ألف نسمة فى القاهرة وأباد ثلث سكان الإسكندرية

فبينما كان الوباء الرهيب يحصد بمنجله الأسود آلاف الأرواح رصدت الفرنسية «سوزان فوالكان» باستغراب شديد، أن أناسا كانوا يلعبون الكرة فى الشوارع بمنتهى الحماس، وعندما سألتهم شرحوا لها أن الشياطين هى التى تجلب الأوبئة، وأن هذه الشياطين عندما تصاب بالإرهاق من الرفرفة فى الهواء، تهوى على الناس وتفترسهم، لكن لعب الكرة يلهى هذه الشياطين ويحوِّل أنظارها بعيدا عن البشر. فلعلنا الآن فى زمن طاعون ما، وما كرة القدم إلا وسيلة تزيح عنا المزيد من شرور الشياطين.. الجدد!.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .