سرطان الزجاج - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 11:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سرطان الزجاج

نشر فى : الخميس 24 فبراير 2011 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 24 فبراير 2011 - 9:30 ص

 للوهلة الأولى بهرنى مبنى الركاب «الجديد» رقم 3 كما بهر كثيرا من الناس وقلت فى نفسى أنه ربما يكون ممكنا أن يولد شىء طيب من رحم نظام ردىء، وبدأت أفكر فى الدكتور أحمد شفيق الذى أشرف على إنجاز هذا المبنى وغيره من تطويرات مطار القاهرة ومطارات أخرى كاستثناء محتمل فى نظام الاستبداد والفساد المخلوع، فالرجل يبدو أنيقا رقيقا وحاصلا على درجة دكتوراه مرموقة، لكننى مع تكرار ذهابى إلى ذلك المبنى مسافرا ومستقبلا راح يساورنى شىء من الشك فى وجود «حاجة غلط» فى هذا المبنى الباذخ وما وراءه، وكان سرطان الزجاج الذى رأيته فى آخر زيارة لى للمطار وقد ضرب أحد الألواح الكبيرة فى واجهة المبنى البلورى بمثابة ضوء كاشف لما ساورنى من شكوك.

بداية أقرر أننى كثيرا ما كنت أفكر فى خلطة النظام الساقط كتكوين من عنصرين، عنصر إجرامى يمارس الفساد بوعى فيخطط له ويدبر ويربِّط ويُنفِّذ، وإلى هذا العنصر ينتمى ناهبو أرض الدولة ولصوص الخصخصة وأبواق النفاق ومُزورو الانتخابات ومُلفقو القوانين ومُحركو عصابات البلطجة وأشباح تنظيم الترويع الأمنى السرى الذى تردد أنه كان يُدبّر بواسطة وريث الغفلة وخبرة وجوه معتقة الإجرام السياسى والأخلاقى عايشت كل العهود.
أما العنصر الثانى فى خلطة ذلك النظام فقد يكون حسن النية لكنه يصب بممارساته فى دائرة التدمير العام نتيجة مجاراته لما هو سائد من حوله ولــــو بشــكل لا شعورى أو نتيجة منطق خاطئ فى تسييره للأمور التى بحوزته، وفى النهاية يكشف ما كان مبهرا من أعماله عن وجه آخر كان خافيا عنه هو نفسه، خفاء سرطان الزجاج وراء السطوح البراقة!

و«سرطان الزجاج» تعبير له مرادفات أخرى مثل «التهشُّم الذاتى للزجاج» أو «كعب أخيل البلور»، وهو يرتبط تحديدا بالزجاج «المُقسَّى» المستخدم فى السيارات وواجهات الأبنية الحداثية، والمفارقة أن تقسية هذا الزجاج هى المنفذ السرى الذى يتسلل منه هذا السرطان، ويحوِّل شفافية الزجاج الفاخر فيما بعد، ودون أى سبب خارجى، إلى عتامة بيضاء لهشيم مُعلَّق يتكون من شظايا متجاورة فى شكل يماثل عش عنكبوب كثيف وشديد الخطورة إذا انهار بثقلة وحوافه الحادة وزواياه المسنونة على من يقع فى مرمى انهماره.

منذ 45 سنة ومع تكرار ظهور حوادث التحطم الذاتى لزجاج واجهات الأبنية العالية الحديثة فى الشمال المتقدم، بدأ البحث عن سر هذه الظاهرة، وتوصل الباحثون إلى أن مرجعها وجود شوائب متناهية الصغر من بلورات كبريتيد النيكل فى قلب الزجاج المُقسَّى، وهى تنتج بفعل حرارة الصهر المرتفعة من تفاعل الكبريت المستخدم فى صناعة الزجاج مع النيكل الذى ربما تكون مصادره معادن أوانى حفظ المادة الخام أو أدوات النقل أو الأفران أو البواتق الملتهبة.

هذه الشوائب الدقيقة من بلورات كبريتيد النيكل لها خاصية استثنائية، فهى تتمدد مع انخفاض حرارتها، ويحدث أن البلورات المتكونة فى حرارة مرتفعة أثناء التصنيع تكون ساخنة وفى حالة انكماش، وتظل على انكماشها بالرغم من عملية التبريد السريع بأدشاش الماء البارد للألواح الساخنة فى مرحلة التقسية، فالزجاج مادة محدودة التوصيل للحرارة، لهذا لا يصل التبريد السريع بكفاءة إلى قلب الزجاج الذى يكون سميكا فى العادة، ولا يحدث تغيُّر لبلورات كبريتيد النيكل المنكمشة فى الأعماق.

لكن مع الوقت والذى يصل أحيانا إلى بضع سنوات، تصل البلورات إلى درجة التبريد بينما تكون ألواح الزجاج معلقة فى أطر الواجهات أو السيارات، فتتمدد، وتُحدِث كل بلورة مُتمدّدة شرخا فى المادة الصلبة من حولها، ويتوالد من هذا الشرخ الأولى شروخ تمتد وتدور مفتتة لوح الزجاج ومحولة إياه إلى هشيم شديد الخطورة ينتظر لمسة صغيرة أو هبة هواء ليضرب الوجوه أو ينهمر على الرءوس والأعناق !

هكذا كشفت لى عتمة لوح الزجاج المتسرطن فى الواجهة البلورية للمطار الجديد ما أعتقد أنه جرثومة فى منطق تشييد هذا المبنى بالطريقة التى شُيِّد بها، وهى جرثومة شاعت فى إعمار وإقفار سياسات وممارسات النظام السابق، ولا أعنى هنا الممارسات الإجرامية التى مارسها مجرمون حقيقيون بوعى وخبث وتدبير شيطانى من سلب ونهب وتزوير وترويع ونفاق وكذب، بل أعنى الممارسات الخاطئة ولو بحسن نية فيما تصور أصحابها أنهم يحسنون بها صنعا بينما كانوا يسيئون، ودليلى على ذلك منطق تشييد مبنى الركاب رقم 3 فى المطار الجديد.

طبعا سيسارع البعض متسائلين باستنكار: وهل كان المطلوب أن نتخلف عن العالم فلا نمتلك مطارا مدنيا جديدا حديثا أو شبكة مطارات على شاكلته تليق بمقام مصر السياحى والحضارى؟ وهو سؤال لن يكون إلا سطحيا وينبغى الرد عليه بما هو أعمق، فالمسئول المسئول لا يمكن له أن يؤدى عملا حسنا حقيقيا إلا من خلال وعى شامل وعميق وصادق بواقع أمته، يجعله يرتب الأولويات بلا مجاملة ولا تصنع ولا مماشاة لذوق التسلط الفاسد الذى كان سائدا، ولابد من مراعاة منطق التنمية المستدامة فى كل ذلك، مع النظر بعين الاعتبار، كل الاعتبار، للحفاظ على البيئة من حيث ترشيد استهلاك الطاقة على وجه الخصوص. ومبنى الركاب رقم 3 فى المطار الجديد الذى أنجزه الدكتور شفيق كان يجافى ذلك. كيف؟

لقد انتشر استخدام الزجاج كمادة تشييد فى الأبنية الحداثية فى الغرب والشمال المتقدم عموما بمنطق مقنع، لأنها بلدان باردة الطقس والزجاج المُقسَّى والمزدوج خصوصا مفيد فى الاحتفاظ بالحرارة المتولدة عن طريق التدفئة الصناعية داخل الأبنية وقتا أطول ومن ثم يوفر فى استهلاك الطاقة أما فى المواسم القصيرة المشمسة هناك، فيكفى تفتيح النوافذ المدروسة فى تصميمها اتجاهات الريح للحصول على تهوية طبيعية أو تكييف بدرجات قليلة تقتصد فى استهلاك الطاقة. أما لدينا، فالعكس بالعكس تماما!

ففى مناخ حار معظم أوقات السنة تحوِّل الواجهات الزجاجية جوف الأبنية إلى صوبات زجاجية تتراكم فيها الحرارة وتزهق الأرواح فلا يكون هناك ملاذ إلا باستخدام التكييفات الصناعية بكثافة تلتهم المزيد من الطاقة التى هى ناضبة لدينا أو مبيعة بالعمالة والعمولة وبأبخس الأسعار لأعداء لم يثبت أبدا أنهم يريدون لنا أى خير. وهذا الاستهلاك العالى للطاقة يناظره تلويث موازٍ للبيئة. كما أن تشييد مبنى كهذا بمواد مستورَدة بأثمان باهظة ويتحتم تجديدها كالزجاج المُقسَّى، فهو معبَر مفتوح ليس لتلوث البيئة هذه المرة، بل لتلوث الضمائر، وترويج كذب المظاهر!

نعم كذب، ففى دولة مثل مصر بثقلها السكانى الكبير كان ينبغى أن تكون الأولوية للتنمية الزراعية التى تطعم الناس كفاف خبزهم، لكن قصر نظر المنطق الخاطئ فى التنمية، كما اللامنطق الفاسد فى عمليات السلب والنهب، تآزرا لتكون الأولوية لقطاع البناء المجافى فى مجمله لخصوصية وسلامة البيئة، ومعه السياحة العشوائية والصناعات التجميعية التافهة والأخرى شديدة التلويث للبيئة والنهمة فى استهلاك الطاقة التى كانت مدعومة للمحاسيب بقرارات الاستبداد والفساد كصناعات الأسمنت والأسمدة والحديد التى كانت عيونها الجشعة لا تتطلع إلا إلى الخارج لتصدير منتجاتها، وإيداع عوائدها فى البنوك الأجنبية.

مبنى الركاب رقم 3 فى المطار الجديد لم يخرج عن إطار تلك المنظومة للحكم السابق وإن فى أفضل جوانبها. وبرغم احترامى لأناقة وطاقة الدكتور شفيق فى أدائه السابق إلا أننى أشك فى قدرته على قيادة حكومة إنقاذ، فمصر فى حاجة لحكومة إنقاذ قبل أى شىء آخر، حكومة تأخذ بجوهر الجوهر وبأولويات الأولويات الآن، أمنا وطعاما وعدلا وحرية، وتطوُّعا مُنكِرا للذات فى مهمة تضحية أولا وأخيرا، حكومة إنقاذ لا يكون وزراؤها مأمورين بل مُجادلين بالحق ومقاتلين فى صدق وحُسن الأداء.

لا أحد يتمنى لأحد فشلا فيما يمكن أن يؤدى إلى خير الأمة، حتى لو كانت وزارة يرفضها مثلى عقلا وعاطفة، خاصة فى ذلك الفاصل الزمنى بين الألم الكبير والأمل الكبير، لكن إذا كان هناك بُدٌ مما ليس منه بُد، فليكن هناك إعلان وزارى عما تعتزم هذه الوزارة إنجازه ومواقيت الإنجاز ودور كل وزير فى ذلك، فبغير ذلك لن يكون هناك غير أبنية معطوبة فى منطق تشييدها وإن تكن براقة الواجهات، وفى قلب بلورها المُخايل تختبئ شوائب بلورات كبريتيد النيكل كقنابل موقوتة تُفجِّر سرطان الزجاج

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .