«الإلهام» - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 12:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الإلهام»

نشر فى : الأحد 24 مايو 2009 - 5:22 م | آخر تحديث : الأحد 24 مايو 2009 - 5:22 م

 الإلهام هو ما يظنه الكاتب عامةً، والشاعر خاصةً، رسالة تمليها قوة خارقة لكى ينقلها إلى ما يكتب.

والقول بالإلهام كتفسير لعملية الإبداع هو أقدم ما قيل لدى الشعراء والفلاسفة على مر التاريخ، فعلى مستوى الشعراء كان الابتهال إلى القوة الخارقة من موضوعات الشعر الملحمى منذ أقدم الأزمنة، فكان هوميروس يناشد ربة الشعر أن تلهمه، وكذلك فعل دانتى فى فردوسه الذى تضرع فى أَوَّلِهِ إلى الإله الإغريقى أبوللون كى يلهمه على الرغم من إيمانه بالمسيحية.

أما على مستوى الفلاسفة، فقد قرر أفلاطون فى محاورته المسماة «أَيُون» أن الشاعر يكون ملْهَمَاً إذا ظن أنه لا يعتمد على ملكاته الشخصية، وإنما ينفذ إرادة أعلى من إرادته، وأن شاعراً خامل الذكر يستطيع أن ينشئ شعراً ممتازاً إذا أُلْهِم، وأن الشاعر المبدع لا يستطيع أن ينظم شعراً له قيمة إذا خانه الإلهام.

وقد استمر الاعتقاد بهذا الرأى فى أوروبا طوال عصر النهضة من خلال الربط بين الشعر والتوتر الانفعالى الحاد الذى يصل إلى حد الوصف بالجنون، ثم انحسر مع الكلاسيكية بدايةً من منتصف القرن السابع عشر حتى أواخر الثامن عشر نظراً لإعلائها من قيمة العقل، ثم عاد الاعتقاد بالإلهام مرة أخرى مع الرومانسية نظراً لاهتمامها البالغ بالجانب الانفعالى للشعر.

ويتفق بعض علماء النفس مع وجهة النظر هذه فى الإلهام، حيث يُعَرِّفُه«بولدين» مثلاً بأنه إشراق الذهن أو تنبهه الذى ينظر إليه كأنما هو آتٍ مما وراء الطبيعة، فى حين لا يقبلها مصطفى سويف حيث يرى أنها تصور الشاعر وكأنه شخص مسلوب الإرادة ينهال عليه وابل الإلهام، كما أن هذه النظرة السلبية التى تُظهر الشاعر بوصفه متلقياً لا مبدعاً تعجز عن تفسير ما نصادفه من تعقيد وتردد أثناء عملية الإبداع الشعرى، والذى يظهر جلياً فى الدراسات النفسية لمسودات القصائد.

وعلى الرغم من كل هذا، فإننا لا نعدم إيجاد نماذج شعرية حديثة تعلى من شأن المفهوم التقليدى للإلهام لدى الشعراء أنفسهم، حيث يقول صلاح عبد الصبور فى بداية قصيدة «الشعر والرماد» التى كتبها بعد أن توقف عن كتابة الشعر لفترة طويلة:

ها أنت تعود إلىَّ
أيا صوتى الشارد زمنا فى صحراء الصمت الجرداء
يا طفلى الضائع فى ليل الأقمار السوداء
يا شعرى التائه فى نثر الأيام المتشابهة المعنى
الضائعة الأسماء
وأنا أسأل نفسى.....
مأخوذاً بتتبع أصداء حديث الأشياء إلى روحى
وحديث الروح إلى الأشياء
مسلوباً خلف الصور السانحة الهاربة، الوهاجة، والمنطفئة
إذ تطفو حيناً فى زبد الآفاق الممتدة
ثم تغوص وتنحل كما تنحل الموجه
أو تذوى وتذوب كما تذوى قطرات الأنداء
وأ...............................................

وأنا أسأل نفسى:
ماذا ردك لى يا شعرى بعد شهور الوحشة والبعد
وعلى أى جناح عدت....
حيياً كالطفل، رقيقاً كالعذراء
ولماذا لم أسمع خطواتك فى ردهة روحى الباردة المكتئبة
هل عدت خبيئاً فى بسمة حسناء من مانيلا..
هل كانت فى السوق، أو الفندق، أو فى الملهى
لا أذكر، فالبسمة فى هذا البلد ندىً
تغتسل به العينان، صباح مساء

فالشاعر يتلقى إلهامه الذى فاجأه بعد غياب، ويصور نفسه وكأنه يسعى مسلوباً خلف الصور التى ترد على خاطره ما بين سانحة ووهاجة ومنطفئة، والتى يعبر عنها من خلال الرسم الكتابى للسطر الشعرى الذى استكمله بنقاط متوالية، توازى ذبذبات الإشارات التى يتلقاها الشاعر والتى تأتى واضحة سيَّالة كموج البحر حيناً، وشحيحة لا يمكن الإمساك بها كقطرات الندى حيناً آخر، والشاعر يتساءل مشدوهاً عن أسباب هذه العودة، لكنه يفشل فى تحديد السبب الرئيسى، مكتفياً بتلقى هذه النعمة التى فاضت عليه فى هذا النص الذى تلقاه من أغوار سحيقة لا يستطيع رصدها.

فقد توقف الشاعر صلاح عبد الصبور عن كتابة الشعر بعد قصيدتيه «إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء» و«إلى أول جندى قَبَّل تراب سيناء» اللتين كتبهما فور تحقيق نصر أكتوبر عام 1973، ولم يعد للشعر مرة أخرى إلا بداية من هذه القصيدة التى كتبها فى زيارة لمانيلا بالفلبين عام 1975.

وربما كان نصر أكتوبر من وجهة النظر الاجتماعية عاملاً حاسماً فى هذا التوقف، ليس لدى صلاح عبد الصبور فقط بل فى مسيرة الشعر المصرى عموماً الذى كان أكثر توهجاً منذ 1952 حتى 1973، حيث تم تجاوز أزمة الهزيمة ودخل الوطن مرحلة جديدة أنتجت بعد أن استقرت أشكالاً مغايرة من التعبير الشعرى، وفقاً للقضايا الجديدة التى تبنَّى المبدعون الوقوف معها أو ضدها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والفنية، والتى تمثلت عناوينها الكبرى فى السلام مع إسرائيل، والانفتاح الاقتصادى، وظهور النزعة الفردية والاهتمام بالجانب الجمالى فى مقابل الانصهار فى القومية العربية والالتزام الوطنى.

أما على مستوى التفسير النفسى فيرى مصطفى سويف أن «فترات الانقلاب الاجتماعى والأزمات الحادة هى أشد الفترات استعداداً لظهور العباقرة، لأن الحواجز التى تحدد السلوك بداخل المجتمع تفقد جزءاً كبيراً من صلابتها عندئذ. ويصدق هذا الرأى على العلاقة بين الشاعر والمجتمع، فالمجال الاجتماعى الجامد ذو الحواجز المتصلبة لا يتيح الحياة إلا للشعراء الأقزام الذين ليسوا من العبقرية فى شىء».

التعليقات