(عودة المتنبى) - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 10:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(عودة المتنبى)

نشر فى : الإثنين 24 مايو 2010 - 9:54 ص | آخر تحديث : الإثنين 24 مايو 2010 - 9:54 ص

 الربط بين النبوءة والشعر فى التراث العربى بارز وقوى، حيث تشير المعاجم إلى ما يشبه القرابة الدلالية بين الفعل (شعر) وبين المعرفة بالحدس، وكأن الشاعر عند العرب هو الذى تنتقل إليه المعرفة عن طريق الإلهام. وتوضح الجملة النمطية المتكررة فى الشعر العربى القديم (ليت شعرى) أى ليت علمى أو ليتنى علمت، قوة الاعتقاد بأن القول الشعرى هو القول اليقينى المتبصر بالمستقبل.

ولما كان استيعاب الشاعر الكبير أمل دنقل الذى رحل فى 21 مايو 1983 للتراث الشعرى العربى قد تجاوز حدود التأثر الفنى بنصوصه الشعرية إلى التوحد مع نموذج الشاعر العربى القديم فى شخصيته ومواقفه ودوره، فإن مشكلته الكبرى التى هيمنت على موقفه السياسى تتمثل فى أنه شاعر متنبئ لم تستمع السلطة إلى نبوءته، أو هو بصيغة حداثية مثقف يستشرف آفاق المستقبل ولم تسمح له السلطة بأداء رسالته التنويرية تجاه مجتمعه، فكانت نكبتها الكبرى المتمثلة فى هزيمة يونيو 1967.

فقد كتب أمل فى مارس 1967 قصيدة عنوانها (حديث خاص مع أبى موسى الأشعرى) تنبأ فيها بالهزيمة تنبؤا مباشرا قبل وقوعها بثلاثة أشهر، وقد صَدَّر قصيدته بعبارة أبى موسى الأشعرى (حازيت خطو الله، لا أمامه، لا خلفه) وهى عبارة تشير إلى درجة عالية من القدرة على الاستبصار، تتحول فى سياق القصيدة إلى تنبؤ واضح حين يقول:
رؤيا:
(ويكون عام فيه تحترق السنابل والضروع
تنمو حوافرنا ـ مع اللعنات ـ من ظمأ وجوع
يتزاحف الأطفال فى لعق الثرى!
ينمو صديد الصمغ فى الأفواه،
فى هدب العيون فلا ترى!
تتساقط الأقراط من آذان عذراوات مصر!
ويموت ثدى الأم، تنهض فى الكرى
تطهو ـ على نيرانها ـ الطفل الرضيع!)

وقد خشى الشاعر أن تفهم هذه النبوءة على أنها تتعلق بالقحط فقط دون الحرب والهزيمة، فجعل ختام قصيدته حديثا موجها إلى «حمامة السلام» قال فيه:
وستهبطين على الجموع
وترفرفين فلا تراك عيونهم خلف الدموع
تتوقفين على السيوف الواقفهْ
تتسمعين الهمهمات الواجفهْ
وسترحلين بلا رجوع!
ويكون جوع! ويكون جوع!

لهذا كان أمل دنقل هو صاحب أول قصيدة كتبت فى أعقاب النكسة مباشرة وبالتحديد فى 13 يونيو 1967، وهى قصيدته الشهيرة «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» التى يلوذ فيها بعرافة أخرى لم يستمع قومها أيضا لكلامها فكانت الهزيمة النكراء، حيث يقول:
أيتها العرافة المقدسه
ماذا تفيد الكلمات البائسه؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبارْ
فاتهموا عينيك، يا زرقاء، بالبوارْ!
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار!
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرارْ

وقد أصبحت ذكرى هذه النكسة وعدم التفات المجتمع ـ المخدر بتزييف الوعى ـ لنبوءة الشاعر المحذرة جرحا غائرا فى نفسه يوقظ أحزانه كل عام، حيث كتب فى يونيو 1968 قصيدة طويلة ارتدى فيها قناع المتنبى وقال على لسانه فى نهايتها:
«عيد بأية حال عدت يا عيدُ؟»
بما مضى؟ أم لأرضى فيك تهويدُ؟
«نامت نواطير مصر» عن عساكرها
وحاربت بدلا منها الأناشيدُ
ناديت: يا نيل هل تجرى المياه دما
لكى تفيض ويصحوا الأهل إن نودوا؟
«عيد بأية حال عدت يا عيد؟»

وقد ظل هذا الموقف المهيمن يعاود الظهور فى قصائد أمل، حتى إنه فى قصيدة «سفر ألف دال» بديوان «العهد الآتى» أى سفر أمل دنقل وكتاب حياته، يقول:
زمن الموت لا ينتهى يا ابنتى الثاكلهْ
وأنا لست أول من نبأ الناس عن زمن الزلزلهْ
وأنا لست أول من قال فى السوق:
إن الحمامة ـ فى العش ـ تحتضن القنبلهْ!

وقد حرص أمل على أن يوضح للقارئ أنه لا يمتلك قدرات خارقة تمكنه من التنبؤ بالمستقبل، لكنه فقط يملك رؤية تحليلية للواقع تستشرف القادم بموضوعية حقيقية، لهذا فقد كانت الهزيمة ــ من وجهة نظره ــ نتيجة منطقية متوقعة لتزييف الوعى والقهر الذى تمارسه السلطة تجاه الشعب، حيث يقول فى مفتتح قصيدته «تعليق على ما حدث»:
قلت لكم مرارا
إن الطوابير التى تمرُّ
فى استعراض عيد الفطر والجلاءْ.
(فتهتف النساء فى النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التى تصطف على الحدود، فى الصحارى
لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التى ندفع فيها ثمن الكسرة والدواءْ.
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا!

كما يرى أيضا فى إطار تحليله السياسى الشامل للموقف أن هذه الهزيمة تمثل موتا إكلينيكيا لأسطورة عبدالناصر، حيث قال فى قصيدة «أيلول» التى كتبها فى سبتمبر 1967:
أيلول الباكى فى هذا العام
يخلع عنه فى السجن قلنسوة الإعدام
تسقط من سترته الزرقاء الأرقام!
يمشى فى الأسواق: يبشر بنبوءته الدمويه
ليلة أن وقف على درجات القصر الحجريه
ليقول لنا: إن سليمان الجالس منكفئا فوق عصاه
قد مات! ولكننا نحسبه يغفو حين نراه!!

وهنا تصادفنا النبوءة مرة أخرى، حيث يريد الشاعر المثقف تنوير الشعب بإعلامه بأن هزيمة 1967 قد أثبتت أن صورة عبدالناصر الزائفة لا تعبر عن قوته الحقيقية، وأنه لا يوجد مبرر مطلقا لتحمل المزيد من الخوف والقهر من شبح متهالك.

فأمل كان يؤمن بأن عبدالناصر قد مات سياسيا بعد الهزيمة، لهذا عندما مات بالفعل فى 28 سبتمبر 1970 لم يعتبر موته حدثا مفاجئا وكتب فى الليلة نفسها قصيدة عنوانها «لا وقت للبكاء» قال فى مطلعها:
لا وقت للبكاء
فالعَلَم الذى تنكسينه على سرادق العزاء
منكس على الشاطئ الآخر، والأبناء
يستشهدون كى يقيموه على «تبَّه»،
العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن مرارة النكبهْ

وقد عاد الشاعر فى هذه القصيدة إلى النبوءة مرة أخرى أيضا، حيث تنبأ صراحة بالنصر القادم فى مقطع يحمل «رؤيا» جديدة ختمها بقوله:
وها أنا ـ الآن ـ أرى فى غدك المكنون:
صيفا كثيف الوهجْ. ومدنا ترتجْ. وسفنا لم تنجْ
ونجمة تسقط ـ فوق حائط المبكى ـ إلى التراب
وراية «العقاب» ساطعة فى الأوجْ

على أن أمل دنقل لم يفرح بهذا النصر المأمول عندما تحقق، ولم نجد فى دواوينه كلها ولو إشارة عابرة إليه، لأنه كان رافضا لفكرة وقف إطلاق النار وما تبعها من مفاوضات سلام، حيث يقول فى ختام قصيدة «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس»:
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
(ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد)
ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيره
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوضُ
من حول مائدة مستديره
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء
ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر
ليغفر الرصاص، يا كيسنجر

ولهذا كان آخر ما خلفه لنا الشاعر العربى التراثى المعاصر أمل دنقل فى هذا الشأن، هو وصية كليب التى خطها إصبعه بمداد من دمه قائلا فى صدرها «لا تُصَالح».

التعليقات