أوزير فى التحرير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوزير فى التحرير

نشر فى : الخميس 24 نوفمبر 2011 - 9:55 ص | آخر تحديث : الخميس 24 نوفمبر 2011 - 9:55 ص

كانت المليونية هذه المرة مختلفة، فى موعدها وحجمها وشعاراتها، وأهم من ذلك كان المشاركون فى صنعها، وهو الشىء الأهم الذى وجدت نفسى أدقق فى تمحيصه، فرحت أشق طريقى فى الزحام محدقا فى الوجوه والهيئات ملتقطا تعبيرات الملامح ونبرات الأصوات، ووجدت نفسى أقرب ما أكون من الأيام الثمانية عشر المجيدة للثورة النبيلة، فقد كانت الوجوه هى نفسها أو تكاد، والأعمار هى نفسها على الأغلب، والروح التى جعلنا الإحباط نظنها ماتت، نكتشف أنها لم تمت، وهذا أكثر ما وجدته مدعاة للتفاؤل، برغم أن التربص كان ماثلا هناك، وكان يطلق مدافع دخانه الذى لم يكتف بأن يكون ملهبا للعيون ومدوخا للرؤوس هذه المرة، بل كان ساما وقاتلا ويعزز غدر بنادق الرش وطلقات الرصاص الحى وذلك التصويب الإجرامى على العيون.

 

قررت فى نفسى أن هذه هى المليونية الحقيقية منذ ترك الثوار الحيقيقيون الميدان، وأنها الأغلبية الحقيقية لمن أراد المناطحة بمزاعم الأغلبيات، وهى عودة إلى نبالة الهدف الأصلى «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية»، بالرغم من أن الهتافات فى هذه المليونية لم تكن تردد هذا الشعار. ومن ثم مثَّلت المليونية إضافة لمغزاها الأساسى فرزا واضحا لثنائية التعارض الأزلى بين طلاب الحق وطلاب السلطة.

 

كانت الأغلبية شبه المطلقة ضمن هذه الأغلبية المليونية من الشباب، فتيان وفتيات من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن مشارب شتى، لكن المشترك بينهم كان واضحا وضوح نضارة العمر وبشاشة الوجوه، برغم أن الموت كان فاغرا فاهه المدجج بالنار والدخان السام والحقد الأسود القادمة كلها من جوف شارع محمد محمود، الحامل لاسم أحد أبشع وزراء داخلية مصر فى العهد الملكى وطغاة وزاراته. وكان طريق الآلام الذى فتحته المليونية عبر احتشاد قلبها، واصلا ما بين «خط النار» على ناصية الشارع الموسوم بالدم، والمستشفيات الميدانية المجاهدة فى العراء، وكانت عربات الإسعاف مع الدراجات النارية لا تكف عن الصراخ والوميض بأنوارها موحية الزرقة، وهى تحمل ذوى الإصابات الجسيمة إلى المستشفيات خارج الميدان.

 

شباب أعادوا لُحمتهم فى هذه المليونية الانبعاثية دون أن تفرق بينهم أن تكون الذقون حليقة أو مطلقة اللحى، وفتيات محجبات ومنتقبات وسافرات كن أخوات الرجال فى هذه المأثرة. وجميعهم كانت ملامحهم وسلوكهم تعود إلى سيرتهم البكر الأولى والأصدق والأصح، كإخوة فى وطن واحد، ينشد لكل مواطنيه الحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، فقد طالت الشهور واستطالت وبقايا النظام القديم تراوح فى مكانها، بل عادت إلى الظهور بذاءة الاعتداء على الكرامات بكشوف العذرية جنونية الهبوط، ووصم حركات وطنية بالتخوين والعمالة برغم إسهامها المشهود فى مواجهة الاستبداد والفساد فى أوج تجبره وجبروته، وأخيرا محاكمة شباب جميل ونبيل بتهم غير معقولة استنادا إلى شهادات منحطة لكذابات وكذابين أشرين.

 

شباب وشابات من الليبراليين والإخوان المسلمين والسلفيين، نفضوا من حولهم فى هذه المليونية تلك الأسوار القميئة والمعيقة التى اصطنعها الشيوخ والشائخين، وانفتحوا معا على المثل الأعلى فى هتافهم المشترك القديم القويم «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية»، فالحرية لاتزال رهن التهديد، والعدالة لم يزل غيابها يوحش، حتى فى حدها الأبسط والأوضح فى أمربديهى كتحديد حد أدنى وحد أعلى للأجور.

 

كنت أسائل نفسى وأنا أمضى متأملا الوجود والأرواح فى هذه المليونية الصادقة الصافية الحقيقية، كيف تمكنوا من العودة إلى جسد الثورة البكر متوحدين، بعد أن قطَّعت هذا الجسد سكاكين غلاة المتعصبين ومُدى المتلمظين على السلطة، وأمواس هواة الشهرة، وسواطير المتآمرين بالصفقات السرية من أجل القوة لا الحق.

 

ضفقات خفية فضحت سرها هذه المليونية النبيلة ذاتها؟! فقد كشفت النهاية البائنة عن بداية الصفقة الشائنة، عندما ارتضى شيخ وقور بأن يقوم بدور لا يتناسب مع مقامه القانونى والوطنى والثقافى بدور «ترزى قوانين» على رأس لجنة مريبة التكوين لتعديل مواد دستورية، نسفت الجسر الذى كان قد أجمع عليه كل شركاء الثورة، للعبور نحو انتقال سليم للدولة الديمقراطية الحديثة المحققة لصيحة «حرية، كرامة انسانية، عدالة اجتماعية»، أى دستور توافقى يعلى من حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، ويحدد المسار المتضمن لكل مكونات هذه الصيحة، بانتخابات ديمقراطية نزيهة لاختيار برلمان رشيد، ووزارة نهضة، ورئيس يكون نقيضا لكل الفراعين.

 

برغم رائحة الغاز الفاسد والقاتل التى كانت تهب على الميدان خفيفة أحيانا وثقيلة فى أحيان أخرى من الجهة الشرقية، وبرغم بعض القمامة التى تراكمت تحت الأفاريز باعثة على التذكر المرير لسحل جثامين الشهداء وتكويمها بانحطاط وتوحش على الأرصفة، فقد أحسست وأنا فى قلب زحام النضارة والبكارة لهذه المليونية النبيلة بدفقات من نسيم نقى يهب على وجهى، وكأن جناحين هائلين يخفقان فى الأعالى مرسلين هواء خفقهما إلى المحتشدين على أرض الميدان، وتداعت إلى ذهنى صورة من أسطورة «أوزير وإيسه»، أو «أوزيريس وإيزيس» (كما ننطقها باللغة الإغريقية أو اليونانية القديمة)، فقد صورت الأسطورة إيسه المجنحة بعد أن جمعت أشلاء جسد زوجها أوزير التى قطَّعها أخوه «ست»، وخفقت عليه بجناحيها فشهق مستعيدا أنفاسه.

 

رأيت الأسطورة تعيد سيرتها الأولى، متجسدة على أرض التحرير فى إطار جديد خلال هذه المليونية، وفى الأسطورة كان أوزير رمزا للحكمة والعدل، ويرجح أنه حكم فى فترة عُرفت بالعصر الذهبى فى مصر القديمة، حيث نشر القوانين العادلة وتوخى الحقيقة وعلم الناس زراعة القمح وصناعة الخبز، ومن ثم كان رمزا للنيل والقمح والحياة الطالعة من بطن الأرض. وعلى النقيض منه كان أخوه «ست» حامل ألقاب «فائق السطوة. مدمر الضياء. ممثل الظلمات والصحارى الجدباء. قاتل أخيه ومقطعه إربا».

 

كان كل من الأخوين أوزير وست نقيضا للآخر، وفى التحليل النفسى كان أوزير يمثل طاقة الحب والبناء والنماء بينما كن ست يمثل نزعة التملك والتسلط والتدمير. كانا ممثلين للتناقض الأبدى بين مطمح الحق ومطمع القوة، وكان لابد أن يصطدما، وأن يكون «ست» هو المبادر بالصدام.

 

ست، القاسى الحاقد النهاب، والذى وضع الحمير حراسا على مخازن ثرواته، رأى نفسه أحق بالحكم من أخيه، فتآمر عليه، وأُمسك متلبسا بتآمره، وحُكم عليه بالاعدام، لكن أوزير لم يحتمل أن يُعدم شقيقه، فافتداه بذبائح من الماشية وأطلق سراحه، لكن ست لم يكف عن تآمره، ونال من أوزير بمعية منتفعين وأشرار من حوله، وقطعه ست عشر قطع، ويقال اثنتى عشرة، وبعثر أشلاءه، لكن إيسه أو إيزيس الموصوفة بأنها «ذكاء العالم» «سيدة الأفق» «مبعث الضياء المرشد» والممثلة لأرض مصر المتأهبة للخصب بمياه النيل الذى يمثله أوزير، جمعت اشلاء زوجها ودفت عليه بجناحيها فالتقط شهقة الحياة، وعاد ينشر الحق والعدل فى مصر.

 

لم يفتر حقد ست، فعاد إلى تآمره وقتل أوزير وقطعه أربعين قطعة هذه المرة، وعادت إيزيس تجمع اشلاءه وتمنحها نسمة الشهيق ليرجع إليها وإلى الدنيا والناس، فبدا وكأن هذا الصراع أبد، لكنه لم يكن كذلك.

 

لقد نظر الدارسون إلى القصص الثاوية فى متن الأساطير على اعتبار أنها تعبير رمزى عن معنى يُراد إيصاله، عن حكمة العصور الماضية مُعبَّرا عنها بلغة رمزية مهداة إلى كل العصور التى تليها. وهذه الأسطورة التى تعد أسطورة الأساطير فى التراث المصرى القديم، تمثل تعبيرا جليا عن صراع صبوة الحق فى مواجهة إغواء القوة، فكيف انتهت الأسطورة واختُتِم المعنى؟

 

لم يكف ست عن قتل أوزير وتقطيعه وبعثرة أعضائه، ولم تيأس إزيس عن جمع أشلاء حبيبها ومنحه قبلة أو شهقة الحياة، لكن أوزير اكتفى بعد أن أنجب من أيزيس ولدهما حورس، وزهد فى الحياة راحلا إلى بطن الأرض، وثمة مفاجأة للأسطورة فى إحدى رواياتها، حيث ظل جسد أوزير الأسمر حافزا للحياة والنماء حتى فى مثواه بعد الموت، لأنه بات المحفز للبذور كى تنبت من فوقه وتطلع من الأرض شجرا ينبت ثمرا وزهورا وغصونا وخضرة.

 

وأيا كان مآل تجسُّد الأسطورة فى مليونية التحرير الجامعة الأخيرة، ستظل روح الوفاق الجامع لشباب هذه الأمة من كافة أطيافها، إن ثابروا على وفاقهم وأخلصوا له وحافظوا عليه وحموه من تسللات الغوغائية واندساس المخربين المأجورين، هى الثمرة الأنضر والأفضل من ثمار ثورة يناير النبيلة. ومهما كانت محاولات دفن هذه الثمرة، ستظل تُنبِت من بذورها شجرا وزهرا وثمرا يحبه الأخيار ويزيد أقبالهم عليه لتكوين أغلبية سلمية صادقة لا قِبل لقوة بها مهما كانت. فمن يتعظ؟!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .