موعظة - كمال رمزي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 3:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موعظة

نشر فى : السبت 24 ديسمبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 24 ديسمبر 2011 - 8:00 ص

جاء الوداع نموذجيا، رقيقا ومحترما ومؤثرا، من دون عويل أو لطم أو دموع. إنه أقرب لمشهد بديع أخرجه موهوب، تنساب لقطاته بنعومة شاعرية آسرة: الجثمان فى صندوق ملفوف بعلم البلاد. سبعة جنود يحملونه، يسيرون به برءوس مرفوعة، بكرامة واحترام. وخطوات راسخة، واثقة، يدخلون قاعة واحدة من أكبر كاتدرائيات «براج» عاصمة التشيك.

 

حجارتها تفوح برائحة القدم والعراقة، مبنية على الطراز القوطى حيث السقف المرتفع، على شكل الأقواس المتوالية، يتدلى منه نجفات مكونة من عدة أدوار، لمباتها أقرب للشموع.. أرملة الراحل وأقاربه ورجال الدولة، يتابعون الموكب. يتطلعون إليه بإجلال. يرتدون الملابس السوداء الأنيقة، وجوههم بيضاء مشربة بحمرة تشى بالصحة، تمتزج فى ملامحهم درجة ما من الحزن مع الرضا.. فى أحد جوانب القاعة يجلس أعضاء فرقة موسيقية كبيرة، تعزف بمهارة مقاطع من القداس الجنائزى الذى لم يستكمله «موزار» الذى وافته المنية بعد أن قام بتأليف أجزائه الأولى.. أقواس الكمنجات ترتفع وتنخفض فى لحظات واحدة.. وعقب الصلاة، تتابع الأحباء، كل منهم يضع وردة واحدة على الصندوق.

 

الوصف هنا لجنازة «فاتسلاف هافل» «1936 ــ 2011»، الكاتب المسرحى الكبير، الذى تحولت نصوصه إلى عروض تقدمها معظم عواصم العالم، ومنها القاهرة التى عرضت له «المذكرة» خلال مسرح الـ«100 كرسى» فى أواخر الستينيات، كما قدم له البرنامج الثقافى ــ البرنامج الثانى سابقا ــ فى الإذاعة، العديد من مسرحياته.. أعمال «هافل»، مثل «حفلة بالحديقة» و«أحزان لارجو» قريبة فى أسلوبها من مسرح «العبث»، وتتضمن نقدا جريئا ولاذعا، ضد سلطات القمع فى بلاده، وفى العالم كله.. لذا، بطشت به السلطات، وزجت به فى معتقلاتها، مما أدى إلى ازدياد عدائه للنظام، ووقوفه بحزم إلى جانب قوى الثورة والتغيير، وأصبح أحد أهم مهندسى «الثورة المخملية» فى تشيكوسلوفاكيا عام 1989، ليغدو رئيسا للدولة طوال ثلاث سنوات، ووجد نفسه فى اختبار شديد القسوة عام 1992، ذلك أن «سلوفاكيا» شاءت أن تنفصل عن التشيك، وعلى الرغم من أنه ــ شخصيا ــ ضد هذا الانفصال، فإنه، بلا تردد، اختار النزول على رغبة الناس، واستجاب لمطلب السلوفاكيين، من دون ضغينة، ليغدو، لاحقا، رئيسا لدولة التشيك، وتحولت نزاهته الأخلاقية وإيمانه بالحرية، ونزعته المؤمنة بالسلام، وإيمانه بالعلم والعمل، إلى ممارسات فعلية، وبالتالى جنَّب بلاده التخبط فى دوامة الفوضى والعنف واللصوصية، وخرج بها إلى بر الأمان، ليسلم رايتها إلى مَن جاء بعده عام 2003، محتفظا بمحبة شعبه، وتوقير بلاد الدنيا لممارساته الإنسانية، وعدم تمسكه الأرعن بالسلطة، ونال ــ عن استحقاق ــ جائزة غاندى للسلام.. وأصبح الآن، بعد رحيله، أمثولة للخروج الآمن، المحترم، المبجل، من الحياة.. تشهد بهذا جنازته التى تؤكد أنه لن يدفن فى قلوب سيظل حضوره نابضا بداخلها.. رسالة «فاتسلاف هافل» وصلت لنا، لكن لم تصل لحكامنا، وبالضرورة، غادروا الدنيا، مكرهين ومكروهين، بلا مرثية أو نظرة أسى.. ومن طال به العمر، يعيش سنواته هاربا أو مسجونا أو مذعورا.. اللهم ارحمنا.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات