تحديث تاكسى القاهرة.. بالشلُّوت - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 9:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحديث تاكسى القاهرة.. بالشلُّوت

نشر فى : الأربعاء 25 مارس 2009 - 9:47 م | آخر تحديث : الأربعاء 25 مارس 2009 - 9:47 م

 من مأثورات الوسط الثقافى عن كاتب كبير، جميل، وديع، راحل، أنه ما من مرة حظى فيها بلقاء زعيم عربى جبار، إلا وانتابه إحساس مرعب بأنه سينال من هذا الزعيم شلوتا مفاجئا، فى «محاشمه» إن ارتكب هفوة يظنها هذا الزعيم مخالفة له!

أستعيد هذه الصورة كثيرا وأضحك، خاصة عندما أرى الوزراء والمسئولين الجالسين فى الصفوف الأولى، فى حضرة رئيس أو زعيم من هذا النوع. فمعرفتى بشىء من «لغة الجسد»، تكشف لى أن معظم، إن لم يكن كل، هؤلاء المساكين، يخافون من مباغتة شلوت من النوع الذى كان يخشاه الكاتب الكبير، الجميل، الوديع، الراحل.

فهؤلاء القاعدون فى الصف الأول تحت نظر الزعيم، أو الواقفون أمامه، يتخذون وضعا يسمى فى لغة الجسد «الوضع الدفاعى» فهم يشبكون أياديهم لتغطى، لاشعوريا، هذه المنطقة التى توجد فيها «المحاشم». وهو وضع يتكرر كثيرا دون أن ينتبه له من يؤدونه، ولا من يشاهدونه.

وأوضح مثال له، لاعبو كرة القدم الذين يشكلون حائطا لصد إحدى الكرات، أمام لاعب معروف بأن قدمه خرساء وشوطته والقبر، فهم، لاشعوريا كذلك، يغطون بأياديهم منطقة المحاشم، بل يثنون ركبهم عاليا لدعم هذه التغطية.

يراودنى هذا الخاطر، كثيرا، وأنا أتابع اجتهادات، أو افتكاسات، الكثير من وزرائنا ومسئولينا. فبالرغم من أن معظمهم مشهود له بالذكاء، وأكثرهم تلقى تعليما راقيا جدا، إلا أن اجتهاداتهم وافتكاساتهم لا تكشف إلا عن نوع بائس جدا من الفقر الفكرى، حتى على مستوى تخصصاتهم العلمية والمهنية.

ولا تفسير عندى إلا أن أمخاخهم قد صارت «أبيض ياوردى»، لطالما أن هذه الأدمغة ألغت وعيها تحت زحف لاوعى الخائف والمتوجس والمرعوب، بينما تنتظر الشلوت المفاجئ فى المحاشم.

مسئولية من هذه الحالة ؟ المرعب أم المرعوب ؟ أتركها لاجتهاداتكم، داعيا لكم بالسلامة من أى شلوت. لكننى أشير إلى عينة أخيرة تستحق البحث، وتتجلى فى موضوع صار موضوع الساعة من اجتهادات وافتكاسات حزمة من وزرائنا ومسئولينا المحترمين، تحت عنوان «تحديث تاكسى القاهرة».

ضجيج إعلامى، مرئى ومسموع ومقروء ومشروب، ينصب علينا من كل حدب وصوب، يبشرنا بالخلاص من أزمة تلوث القاهرة، الحائزة على المرتبة الأولى فى سباق التلوث على مستوى القارة، والمتقدمة جدا على جدول أكثر مدن العالم تلوثا.

أما سبيل الخلاص الموعود، فهو باستبدال تاكسيات القاهرة القديمة بأخرى حديثة، وهو مشروع قومى تتآزر فيه كل أركان الوزارة، من مالية إلى بيئة إلى بترول، وربما الشئون الاجتماعية، وورش الدوكو أيضا! فتاكسى الأمل القاهرى المُنتظر يُقال إنه سيكون أصفر، وثمة إعلانات عن أنه أبيض بشريط بلاط حمام حول خصره، كما جاء فى إعلان إحدى شركات السيارات التى فتحت أشداق معارضها وأفواه فواتيرها لليغمة التى على الأبواب.

يبدو المشروع لذيذا لأول لحسة، لكن عندما نمعن فى التذوق نكتشف مرارة الفكر البائس فى قلب الطبخة. فكل ماذهبت إليه العقول الوزارية النيرة، هو مجرد استبدال التاكسيات القديمة التى تنفث الكثير من السخام فى هواء العاصمة، بسيارات جديدة قليلة فى نفث السخام. ياسلام. فماذا عن هذه التاكسيات نفسها بعد خمس سنوات، أو عشر ؟ لاشىء إلا الاضطرار للإعلان عن مشروع قومى جديد لتحديث تاكسى القاهرة 2014، أو 2019، وهكذا دواليك!

أتصور أن مشروعا لإنقاذ القاهرة من تلوثها القاتل لا يمكن أن يلجأ إلى هذا الترقيع البائس إلا إذا كان نتاج فكر بائس، فكر مشلول بهاجس الشلوت. فثمة طوفان من البدائل الاستراتيجية للخلاص من كارثة بيئية استراتيجية بهذا الحجم.

ولم يعد التفكير فى هذه البدائل نظريا ولا تجريبيا، بل هناك خطوط إنتاج حقيقية تدفع إلى شوارع العالم، الذى لايفكر بالشلوت، بأمواج من طرازات السيارات التى تتحسب للتلوث البيئى المتفاقم والمجاعة النفطية القادمة، سيارات بعضها متدرج الخطو فى مكافحة التلوث، وبعضها بارق الخيال..

سيارات خلايا الوقود، وسيارات الهواء المضغوط، والسيارات الكهربية، بل هناك سيارة يابانية تعمل بالماء. وليست اليابان وحدها، ولا ألمانيا، ولا الغرب كله من ينشغل بهذه المسألة، بل هناك الهند التى تعمل فيها مصانع «تاتا» على إنتاج سيارة صغيرة تسير بالهواء المضغوط، والمكسيك تعاقدت مع فرنسا على تصنيع مئات الآلاف من هذه السيارة، والصين هاجمة بسياراتها الكهربية التى دخلت حيز المنافسة التجارية بالفعل.

هذا هو بعض الكلام الجد لمن يريد أن يحل معضلة تلوث القاهرة بوسائل جذرية. تفكير يتسم بسعة الخيال، ودأب البحث، وجرأة القرار. باختصار، تفكير مبدع لوزراء ومسئولين أحرار، وأصحاب قرار فعلا، لا مجرد جالسين فى الصفوف الأمامية، مخنوقين بربطات أعناق الرعب على كراسيهم، ومشلولين بهواجس الشلاليت التى يمكن أن تصيب محاشمهم، والتى ربما لايكون لها وجود أصلا، لو أنهم احترموا كرامة عقولهم التى لاينقصها العلام ولا النباهة، فيما أظن. فيما أظن. فيما أظن.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .