المتكلمون - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المتكلمون

نشر فى : السبت 25 أبريل 2015 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 25 أبريل 2015 - 9:00 ص

اتخذت مكانى فى القاعة المزدحمة قبل أسابيع خلت، أتابع المؤتمرَ السنوىّ لمَجمَع اللغةِ العربيةِ. ضمّت الجلسةُ الافتتاحية أمينَ المجمعِ ورئيسَه، ويعرف المهتمون بالحدث والمكان كليهما: الشاعر فاروق شوشة والشيخ حسن الشافعى، فيما لم يحضر العضو المغربىّ عبدالقادر التازى؛ شيخ المَجمَعين العرب وأكبرهم سنا لمرضه، وقد تفاجأ قبل ابتداء الجلسة بفترة قصيرة مَجمَعىٌّ آخر ــ وهو مِن المَغرب أيضاــ بدعوته ليحل مَحَلَّ التازى مُتكلما، ولم يكن بطبيعة الحال قد أعدّ كلمة خاصة للمناسبة. توقّعت غافلة ــ رغم ما أعرف عن طبيعة المكان وأهله ــ أن تكون كلمته قصيرة مُرتبكة، وأن تشوبها بعض الأخطاء كعادة المتحدثين فى مواقفٍ كهذه حتى وإن كانوا مِن العلماء الُمتمكّنين، لكن الرجلَ ارتجل حديثا مُمتدا هادئا لا عيب ولا ثغرة فيه. تابعته بأُذُنِ مَن يسعى إلى التقاط هفوة أو زلة لسان فلم أنجح فى الفوز بمرادى، وانتشيت إذ ردّنى حديثُه السلس المُنساب خائبة المَسعى.

***

طيلة الجلسة، وبقدر ما تمكّنت مِن مُلاحقة المُتكلمين، لم يخطئ مَجمعىٌّ مِن بلد عربىّ كان أو مِن مصر، لم يخطئ سوى الضيف الوحيد الغريب عن المكان، وهو مسئول رسمىّ يحضر بحكم منصبه افتتاح المؤتمر عاما بعد عام؛ طالت كلمته وتراكمت العثرات، فنصب المبتدأ وصفته بدلا مِن رفعهما، موجها إحدى عباراته إلى الإعلاميين المتمركزين فى القاعة، ورفع خبر كان فى عبارة أخرى تحدث فيها عن أهمية اللغة ذاتها، ونسب برنامج «قل ولا تقل» إلى أمين المجمع الحالى رغم أنه لم يكن مُعدّه ولا مُقدّمه، وإنما هو صاحب البرنامج الشهير «لغتنا الجميلة» الذى تابعه كثيرون على مدى سنوات ولاتزال حلقاته تُذاعُ حتى اليومَ، وقد أدرك الجلوس أن الأمر اختلط على الضيف رغم استعانته بأوراق قرأ منها بعض النقاط، فغمغم بعضهم باسم «مصطفى جواد» العالم العراقى الشهير صاحب «قل ولا تقل» كى يُصحّح الخطأ دون فائدة.

***

ذهبت إلى مؤتمر الرواية الذى انعقد فى الشهر نفسه بالمجلس الأعلى للثقافة، فعرجت على ذهنى مُقارنة بائسة بعد حضور بعض جلساته وندواته. كانت المقارنة بين متحدث مصرى يقرأ من ورقة ويخطئ رغم ذلك فى علامات التشكيل، ومُتحدّث مِن المَغرب العربىّ يرتجل فتخرج الكلمات منضبطة بعلاماتها، والأحرف مُمَتعة باكتمال نطقها. كان أغلب المشاركين العرب الذين استمعت إليهم طُلقاء اللسان ندر أن يخطئ أحدهم، أما المشاركون المصريون فكان أغلبهم على النقيض.

ألح علىّ السؤال: لماذا يفشل أغلب المصريين الآن فى اختبارات الخطابة وقد كان لدينا خطباءٌ مفوهون فيما مضى؟ هل مِن خطيب فى وقتنا الحالى يمكنه أن يتفوه بمثلما تفوه عرابى: «لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذى لا إله الا هو لا نُوَرث ولا نُستعبَد بعد اليوم»؟ أو أن يخطب كما خطب مصطفى كامل وأن يصيغ عبارات تشبه: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا»، و«إن من يتسامح فى حقوق بلاده ولو مرة واحدة يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان»؟ رغم مرور سنوات طوال لايزال البعض يحتفظ فى ذاكرته بما قرأ مِن «خطبة الوداع» التى ألقاها مصطفى كامل من الإسكندرية بعد عودته إلى مصر عام 1907، وكان حينها فى حال مِن الإعياء الشديد، مع هذا وُصِفَت خطبته تلك بكونها الأجمل والأطول والأقوى تأثيرا، فهل هناك مَن يتذكّرُ اليوم بِخيرٍ وامتنان لفصاحة اللسان، خطبة ألقاها رئيس أو زعيم مصرىّ فى السنوات الثلاثين الأخيرة؟

***

المتكلمون أنواع منهم مَن لا يحاول استخدام العربية الفصحى فيفعل خيرا، ومنهم مَن يحاول ويبدى عجزا واضحا يلحظه السامعون، ومنهم مَن هو طَلِق اللسان والنوع الأخير يمثل ولا شك استثناء مِن القاعدة. أحضر بانتظام اجتماعات يُفتَرض أن تضمّ صفوة مِن الأساتذة الجامعيين، لا تطرقُ فيها مَسامعى جُملة واحدة مُنمقة أو حتى سليمة. أذكر وربما يذكر مثلى آخرون ذاك القاضى الذى راح يتلو حيثيات حُكمه فى أكثر مِن ساعة لم ينطق خلالها عبارة صحيحة، ورجل الدين المعروف الذى أخطأ مرات فى خطبته التلفزيونية، ووكيل النيابة الذى بدا مُصرا على نبذ أى علامة تشكيل صائبة واستبدال أخرى خاطئة بها. لا يشفع لأساتذة الجامعة تخصصهم فى علوم متنوعة إنسانية وغير إنسانية لا تتعلق باللغة، ولا تشفع لرجل دين عجلته وحماسته السياسية، كما لا يشفع لوكيل النيابة أو للقاضى أنهما درسا الحقوق وأغفلا العربية، وقد كان «إسماعيل صبرى» القاضى الشهير ووكيل وزارة العدل ــ نظارة الحقانية آنذاك ــ مِن كبار الشعراء، وله قصائد بالعربية الفصحى متينة البناء منها نونيته الشهيرة التى مَطلعها: «لا القومُ قومى ولا الأعوان أعوانى إذا وَنَى يوم تحصيل العُلا وانٍ». أذكر أيضا والشىء بالشىء يُذكر، رئيس الجمهورية الذى يصمت حينا بين جملة وأخرى ولا يستغل براحَ صَمته فى ضَبط الكلمات فيخرج أغلبها مُجانبا الصواب. على كل حال ليس بين هؤلاء جميعا مَن يكلّف نفسه مَشَقَّة الاعتذار عن الأخطاء، ربما لفرط ما ارتكب منها، وربما لا يرى أحدهم فى الأمر ما يدعو إلى الاعتذار.

***

ينطق الأطفال المصريون الإنجليزية والفرنسية ولا يعرفون لكلماتهم مرادفات عربية ويفخر لجهلِهم الأهلُ ويزهون، والعيب ندركه جميعا فما عدنا منتجين لمعرفة ولا حتى قادرين على استيعابها، وكما يقال دوما تقوى اللغة بمكانة أهلها ومَبلَغ علمهم، وتذوى وتتراجع بضعفهم وهوانهم.

أحضر مؤتمر مَجمَع اللغة العربية لأستمع فى الجلسة الافتتاحية إلى كبار المتكلمين الذين لا يخطئون إلا فيما ندر. صباحكم رائق يا مَن لازلتم تنطقون الضادَ ضادا والثاءَ ثاء، صباحك رائق أيها الثمانينىّ الجليل؛ تخطبُ مُرتجلا فلا تغفو عن ضمّة أو فتحة أو كسرة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات