سيكلوجية العصابة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سيكلوجية العصابة

نشر فى : الخميس 26 فبراير 2009 - 11:53 ص | آخر تحديث : الخميس 26 فبراير 2009 - 11:53 ص

 شردتنى سيكلوجية العصابة فلم أحصل على درجة الاختصاص الطبى إلا من الخارج، ذلك أننى سجلت لدراسة ماجستير الطب النفسى فى جامعة الإسكندرية وانتدبت للعمل طبيبا مقيما فى مستشفى المعمورة لأكون قريبا من الجامعة. وفى أول يوم للدراسة حضرت «سيمنارا» تديره أستاذة فاضلة، وكان الموضوع هو «المراهقة»، تكلم الزملاء من دارسى الماجستير والدكتوراه، وأكملت الأستاذة ثم عقبَتْ قائلة: «أظن غطينا الموضوع من كل الجوانب» وهمّت برفع يدها لإنهاء السيمنار لكننى رفعت يدى قائلا إن هناك نقطة لم نتطرق إليها، وسمحت لى بالكلام مستغربة، فانطلقت أتحدث عن « سيكلوجية العصابة» psychology of gang.


فى الصمت السابغ الذى ران على المدرج الصغير المزدحم، واتتنى لحظة من لحظات التجلى الذهنى التى تنتابنى أحيانا، فأغادر خجلى المزمن، وأتذكر ما قرأته فى أكثر من مرجع كأننى أراه، تحدثت عن الهشاشة النفسية التى تكتنف المراهق وهو يغادر مرحلة الطفولة صاعدا إلى رشد ناقص، وكيف أنه يعالج ضعفه بتقوية كيانه الفردى بالانتماء إلى مجموعة، أو عصابة، وهذه العصابة تعزز ثقة أفرادها فيها باختلاق صراع مع عصابة أخرى تعثر عليها أو تختلقها أيضا، عصابة أولاد المدرسة المجاورة، أو الشارع الخلفى، أو الحى القريب، أو حتى «شلة» أولاد آخرين من الشارع نفسه.


تكلمت عن خطورة هذه السيكلوجية التى تشكل قاعدة لكل ألوان الجنوح عند المراهق ويجيد اقتناصها مفسدون مهرة، فالتنظيمات المتطرفة تستغل هذه السيكلوجية وإن بالحس لا المعرفة لاجتذاب صغار الشباب إليها (وكانت مصر تغلى حينها ببؤر العنف المتطرف وتضج بدماء وأشلاء ضحايا العبوات الخسيسة المتفجرة) ومن ثم تُعزِّز ارتباطهم بالتنظيم عبر معاداة المجتمع «الكافر» فى الدنيا، كما تعدهم بالجنة فى الآخرة. الشىء نفسه ينطبق على الاستقطاب نحو التنظيمات السياسية، يسارية كانت أو يمينية أو بين بين، كما أن هذه السيكلوجية تفسر انخراط المراهق الجانح فى التجمعات الإجرامية أو شِلل تعاطى المخدرات، لكن هذه السيكلوجية نفسها يمكن توظيفها فى الاستقطاب الحميد باتجاه فرق التنافس الرياضى أو العلمى أو الفنى.


أنهيت كلامى وساد الصمت الذى قطعته الأستاذة بسؤالى: أنت جديد؟، أومأت بنعم، فأضافت منبهة: «طالب الجزء الأول من الماجستير يسمع بس وما يتكلمش»، تجمد العالم من حولى، ولم أجد غير المقعد الذى نهضت عنه لأركله وأخرج، ولم أعد للدراسة فى مصر بعدها أبدا.


تركت جامعة الإسكندرية ولم أحصل على التخصص الطبى إلا بخروجى من دائرة الاستبداد التى تخنق معظم طلاب الدراسات العليا فى مصر. ثم ودعت العمل الطبى كله لأعمل بالصحافة الثقافية وإن لم أغادر الشغف العلمى فى تخصصى، وظلت معى «سيكلوجية العصابة» تضىء كثيرا من جوانب السلوك، ليس لدى المراهقين عمرا وحدهم، بل لدى المراهقين فى الاقتصاد والسياسة والثقافة وجميع مناحى الحياة ممن تجاوزوا سن الرشد بل بلغوا من السن عتيا.


«من ليس معنا فهو ضدنا»، ليس بوش الصغير وحده هو من طبّق معطيات هذه المقولة التى أفرزت تدمير العراق وغزو أفغانستان وعربدة إسرائيل، بل هناك من يطبقها فى صراع عباس وحماس، وتنافس فرقاء الأيدولوجيا السياسية التى تتزيا بلبوس الدين أو الدنيا هنا وهناك، وجوقة السياسات والإعلام فى الحزب المتسلط والحكم العضود.


سيكلوجية تدميرها أفدح بكثير عندما تحكم سلوك مراهقة اليافعين والشيوخ ومن هم فى أرذل العمر. خاصة إذا كانوا من أهل الحكم والنفوذ. وهى سيكلوجية لو حاولنا تقصى مواقع تغلغلها، لاكتشفنا أننا نخوض فى مستنقع من جميع أنماط التشكيلات العِصابية: عصابات الاستبداد والفساد السياسى، وعصابات النهب الاقتصادى، وعصابات التطرف الدينى والتعصب الطائفى. عصابات زادت وفاضت حتى وصلت إلى عنق الأمة وتكاد تخنقها. فمتى نخرج من كل هذا الوحل؟!.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .