الإبداع والحرب - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 5:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإبداع والحرب

نشر فى : الإثنين 26 أبريل 2010 - 9:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 26 أبريل 2010 - 9:50 ص

 يظل الهم الوطنى واحدا من أبرز الدوافع للإبداع، حيث يتأثر المبدع بوصفه مواطنا مرهف الحس بقضايا وطنه المصيرية تأثرا عميقا فى حالتى المد والجذر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالهزائم أو الانتصارات فى المعارك الكبرى.

والراصد للواقع الأدبى المعاصر يكتشف أن تأثير الهزيمة فى الأدب المصرى أقوى بكثير من تأثير النصر، حيث أنتجت هزيمة الخامس من يونيو عام 1967 كثيرا من الإبداع المتميز، فى حين أن انتصار السادس من أكتوبر عام 1973 لم ينتج إلا قدرا قليلا من الإبداع الأقل تميزا.

ولا تعنى هذه الحقيقة أن الأدباء أكثر ميلا إلى نعيق البوم من شدو البلابل، فهم أكثر البشر عشقا للجمال وأقدرهم على صناعته، لكن الأمر يتعلق بعوامل أخرى كثيرة لعل منها أن إحساس الألم أعمق فى تأثيره على النفس الإنسانية من إحساس الفرح، وأن الحزن عموما يدفع إلى التأمل الطويل، بينما يدفع الفرح إلى الانبساط اللحظى، وأن الهزيمة قد امتدت بتداعياتها السوداء على المجتمع إلى ست سنوات كاملة، فى حين أن العبور المفاجئ قد تحقق فى ست ساعات فقط.

كما أن إحساس الأدباء بالمسئولية الوطنية بعد الهزيمة دفعهم إلى أداء دورهم الإبداعى على محاور متعددة منها: نقد الواقع الذى أدى إلى الهزيمة، وتنوير المجتمع والسلطة بتداعياتها وكيفية تجاوزها، وإعادة بناء الروح المعنوية للشعب والجيش حتى يستطيع استعادة الأرض المحتلة.

أما بعد تحقيق النصر فلم يكن أمامهم سوى الغناء لهذا الإنجاز العظيم، وهو غناء محفوف بسياجين من الأسلاك الشائكة: الأول سياسى يتمثل فى أن معظم هؤلاء المبدعين كانوا على يسار السلطة طوال سنوات الهزيمة، وعلى الرغم من تأييدهم لها فى الحرب والنصر بطبيعة الحال، فإنه من الصعب عليهم أن ينضموا إلى مؤازرتها فى أعمالهم الإبداعية بين عشية وضحاها. والآخر فنى يتمثل فى أن مثل هذا النوع من الإبداع كثيرا ما تدفعه المناسبة والحماسة إلى ساحة المباشرة، مما ينأى به المبدعون الحقيقيون عن أنفسهم.

ويحضرنى فى هذا السياق قصيدة للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور تحمل عنوان «إلى أول مقاتل قبَّل تراب سيناء»، حيث استطاع الشاعر فى هذه القصيدة أن يطبق بحق مقولة نقدية كثيرا ما كنا نسمع عنها فى تلك الحقبة ولا نراها، وهى «توارى المضمون الثورى خلف التشكيل الجمالى»، حيث عبر الشاعر عن نشوته بعودة سيناء الحبيبة فى قصيدة عاطفية أبعد ما تكون عن المباشرة السياسية، حيث يقول:
تُرى، ارتجفت شفاهُكَ
عندما أحسستَ طعمَ الرملِ والحصباءْ
بطعمِ الدَّمْعِ مبلولا
وماذا استطعمتْ شفتاك عند القبلة الأولى
وماذا قلتَ للرملِ الذى ثَرْثَرَ فى خديك أو كفيك،
حين انهرت تمسيحا وتقبيلا
وحين أَراقَ فى عينيك شوقا كانَ مغلولا
ومد لعشقك المشبوبِ ثوبَ الرملِ محلولا
وبعد أن ارتوت شفتاك،
تراكَ كَشَفْتَ صدركَ عاريا بالجرحِ مطلولا،
دما، ومسحتَهُ فى صدرها العريان
وكان الدمعُ والضحكاتُ مختلطيْنِ فى سِيماكْ
وكنت تَبُثُّ، ثمَّ تَعيدُ لفظَ الحبِّ مذهولاَ
إن الشاعر يوجه خطابه للمقاتل الذى وهب حياته لاستعادة هذه الأرض متوقعا جملة من المشاعر المضطربة لذلك الجندى فى لحظة تحقيق الحلم، وهذا هو توقعه الأول لطبيعة مشاعر ذلك اللقاء الحميم الذى تصور أنه قد اختلط فيه العشق بالحرمان، والفرح بالبكاء، واليقين بالذهول، وبرز فيه الجرح مهرا غاليا لتراب الوطن.
وربما يكون الشاعر قد توجس من أن يهبط التصوير العاطفى الحسى فى المقطع السابق ـ على الرغم من رقته ـ بسمو الموقف الوطنى النبيل الذى يرمز إليه، ولهذا قد رفع تصويره وتصوره إلى آفاق صوفية روحية خالصة فى توقعه الثانى الذى بدأه بكلمة «تُرى» أيضا كسائر التوقعات، حيث يقول:
تُرى، أم كنتَ مقتصدا، كأنَّك عابدٌ
يستقبلُ النفحاتْ
ويبقى السِّرُّ طَىَّ القلبِ مسدولا
وهذه الالتفاتة الروحية العاجلة لم تمنع الشاعر من العودة فى مقطع التوقع الأخير مرة أخرى إلى ساحة العاطفية الحسية الرقيقة، حيث يقول:
تُرى، أم كنت تُرْخى فى حبالِ الصبر
حتى تُسْعِدَ الأوقاتِ
لحينٍ تطولُ كفَّك كل ما امتدت عليه الشمسُ والأنداءْ
وتأتى أُمسياتُ الصَفْوِ والصبواتْ
يكون الحبُّ فيها كاملا، والود مبذولا
تنامُ هناك، بين ضلوعِها، ويذوبُ فيك الصمتُ والأصداءْ
ويبدو جسمُها الذهبىُّ متكئا على الصحراءْ
يكون الشاهدانِ عليكُمَا، النجمُ والأنداءْ
ويبقى الحبُّ للآبادِ موصولا
وفى هذا السياق يكون قول الشاعر «ويبقى الحب للآباد موصولا» رمزا فنيا لأمنيته بأن تظل سيناء الغالية جزءا موصولا فى بدن الوطن المصرى. وعلى الرغم من أن هذه القصيدة ليست من أفضل ما كتب صلاح عبدالصبور، فإنها تظل من أفضل ما كتب فى هذه المناسبة، وقد قدمتها لكم تحية لسيناء فى عيد تحريرها، وسلاما للشهداء والأحياء من رجالات هذا الوطن الذين أسهموا فى تحقيق ذلك الحلم الجليل.

التعليقات