«الرثاء» - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأربعاء 29 مايو 2024 11:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الرثاء»

نشر فى : الأحد 26 يوليه 2009 - 10:24 م | آخر تحديث : الأحد 26 يوليه 2009 - 10:24 م

 الرثاء فى الشعر العربى هو البكاء على الميت وعد محاسنه شعرا، لهذا يكاد يكون فى جانب من جوانبه صورة مطابقة للمديح بما فيه من مبالغات بشرط أن يكون الممدوح متوفيا، فهو مديح بلا مقابل، وإطراء لن يسمعه صاحبه.

وقد يخرج الرثاء من هذه الدائرة جملة ويصبح شعرا خالصا بخاصة عندما يرثى شاعر شاعرا آخر، فيصبح كأنه رثاء للشعر. ويمكن لنا أن نطالع نموذجا لهذا فى بكائية الشاعر صلاح جاهين للشاعر بيرم التونسى التى يقول فى بدايتها:

جاية عروس الشعـر م البغَّالة
بملايــة لف وكف متحنى
شافت صِوَان وحبال وناس شغالة
وأنا بابكى جـنب الباب ومستنى
والشمس تقطر حزن ع الصبحية

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

مين اللى مات يا شب يابو دموع
قالت عروس الشعر للموجوع
مين اللى مات يا شب قل لى يا أخويا
قالت عروس الشعر .. لا يكون أبويا
أنا قلت أبونا كلنا يا صبية

إن صلاح جاهين يصنع فى المقطعين السابقين دراما شعرية حقيقية تفوح منها رائحة الحارة المصرية التى أدمن بيرم استنشاقها وإخراجها من رئتيه مرة أخرى أكثر رحابة وأشد إبهارا. لقد صنع هذا فى بداية حياته مع حوارى الإسكندرية، أقصد مع سكانها، فالحارة عند بيرم التونسى هى الناس، سواء فى سخطه وانتقاده اللاذع، أو فى عشقه وغزله الرقيق، حيث يقول:

نسيم البحر صورهم
عرايس يسبى منظرهـم
وخير البحـر رباهــم
على بربون وجندوفلى

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

عيون فروزية ولون خمرى
وفوق المبسم الجمرى
يشــامك سود على عمرى
تخــبِّى إيه وتكشف لى

إن إحدى عرائس بيرم التونسى السكندرية فى المقطع السابق ، والتى رأى أنها ترتدى سواد اليشمك حزنا على وفاته، قد قفزت من نص بيرم إلى نص صلاح جاهين فى رثائه، لكنها قد صارت قاهرية من السيدة زينب بعد أن غير بيرم محل إقامته، وأصبحت العروس ابنته لا معشوقته بعد أن صار شيخا فى آخر العمر.

وصلاح جاهين يرى أن بيرم ليس والدا للشعر فقط، بل إنه والد لكل شعراء العامية أيضا، لهذا فالمشهد مفجع، وجدير بأن تقطر فيه الشمس المنيرة حزنا أسود فى يوم كما تقول العامة «ما طلعتلوش شمس».
مات زى ما كتف الجبل ينهد

مات باقتدار وفخار ما قالش لحد
بيرم.. ومات ماشى ف طريق الجد
وجنازته ماشيه أهه ف شارع السد
والنعش عايم فى الدموع فى عينيا

إن موت بيرم التونسى الشاعر صاحب المبادئ كان موتا يليق به، موتا شامخا ومدويا، وقد كانت صورة نعشه تعوم فى بحر دموع صلاح جاهين حقيقة لا مجازا، فقد انعكس هذا على قصيدته بصورة واضحة تماما فى اضطراب، أقصد فى اختلاف نظام القوافى بالمقاطع الثلاثة السابقة، ففى المقطع الأول يستخدم الشاعر القوافى المتماثلة المتبادلة فقافية السطر الأول هى قافية الثالث، وقافية السطر الثانى هى قافية الرابع. بينما يستخدم فى المقطع الثانى القوافى المتوالية المتماثلة فقافية السطر الأول هى قافية السطر الثانى، وقافية السطر الثالث هى قافية السطر الرابع. بينما يستخدم فى المقطع الثالث القوافى المتماثلة، فقافية السطور الأربعة قافية واحدة.

إنه اضطراب المشاعر وانطلاقها فى لحظة مفجعة وصادقة، وهو يحسب للقصيدة لا عليها، خاصة أن صلاح جاهين قد ربط قوافى المقاطع الثلاثة فى نظام محكم تتكرر فيه قافية السطر الخامس والأخير فى جميع مقاطع القصيدة، ولكن هل أضاف صلاح هذا السطر الخامس والأخير فى كل مقطع بعد هدوئه وانتهائه من كتابة رباعيات العديد المنطلقة من قلبه كالقذائف ليحكم بناء النص؟ ربما، ولكن ما لنا نقذى أعيننا بشرارة البرد لتصرفنا عن نعومة المعدن النفيس؟

فايت فى قلب القاهـرة ومعدى
هوه عارفها وهيه مش عارفاه
على كل حارة وكل عطفة يهدّى
كأنــه راجع لسه من مـنفـاه
بيبوس بعينه اللبده والجلبيه

ـ ـ ـ ـ ـ

دا القبر دا.. ولا كمان منفى
طالع عليه الشوك والحلفا
دا القبر دا.. ولا كمان تبعيده
حدفوه عليها كلمتين فى قصيده
بيرم.. فتحت ديوانه رد عليا

لقد ذهب الرجال وبقى المقال، إنه الشعر الذى سيظل لنا بعد موت بيرم العظيم، وموت صلاح جاهين العظيم أيضا.

التعليقات