عن نصف كوب الثورة الفارغ - فهمي هويدي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 10:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن نصف كوب الثورة الفارغ

نشر فى : الثلاثاء 27 يناير 2015 - 7:55 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 يناير 2015 - 7:55 ص

إذا كانت ثورة 25 يناير قد أبرزت بعض مكامن القوة فى المجتمع المصرى، فإن المرحلة التى تلتها كشفت عن مظاهر للضعف تستحق رصدا ودراسة.

(1)

فى عالم الرياضة يقسمون الفرق درجات بمعيار التفوق والكفاءة. وقد خطر لى أن اقتبس الفكرة فى التعليق على المباراة الجارية بالساحة السياسية المصرية، واضعا فى الاعتبار أن المباراة لم تنته بعد وأنها لا تزال فى شوطها الأول. من هذه الزاوية أزعم أننا بصدد فريق التحق حديثا بدورى السياسة، ولم يتحدد بعد موقعه وترتيبه بين الفرق الهابطة. أما اللاعبون فهم بين هواة دخلوا إلى الملعب مصادفة أو وجدوا أنفسهم فى قلبه فجأة. وبين لاعبين تجاوزوا بالكاد طور اللعب بالكرة الشراب، وقدموا من حوارى السياسة ليبدأوا رحلتهم مع الأندية. أعنى أننا بإزاء لاعبين من الفرز الثانى أو الثالث، بعضهم من متوسطى القدرة وبعضهم يستحقون العطف والرثاء ومنهم من ينصح بالبحث عن لعبة أخرى يؤديها. وجميعهم يحتاجون إلى مدربين ودروس خصوصية مكثفة. وما أدعيه ينطبق على القوى المدنية وعلى الإخوان والسلفيين. وجميعهم معذورون، لأنهم حديثو عهد بمثل هذه المباريات، التى حرموا منها طوال الستين سنة الماضية. لذلك أزعم أنهم مظلومون وظالمون. هم مظلومون لأنهم لم يمكنوا من النزول إلى الملعب فى السابق، وظالمون لأنهم تسابقوا على حمل عبء لم يكونوا قادرين عليه. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم مجتمعين، ناهيك عن أنها أكبر من أى فصيل مهما كان حجمه. ولا بد أن نعترف بأن الجميع فى مرحلة «الحضانة» السياسية ولا يزالون يتعلمون أبجديات اللعبة. وقد قصدت التعميم حتى لا يدعى أحد أنه أفضل من الآخر. وإذا عنَّ لفصيل أن يدعى أنه أقدم من غيره. فإننى أذكِّر بأن بقاءه طويلا على الشاطئ ليس دليلا على أنه بات يجيد السباحة. حتى إذا كان البعض فى السنة الأولى من الحضانة ووجدنا أن البعض الآخر فى السنة الثانية، فذلك لا ينفى أن الجميع لا يزالون فى الحضانة ولم يتجاوزوها.

(2)

النص أعلاه ورد فى مقالة لى نشرت فى 11/12/2012 كان عنوانها «فى انها مباراة بين الهواة فى ملعب السياسة». وفيها عرضت تقييمى للخمسة أشهر الأولى من حكم الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسى، ومما قلته فيها «إن الإخوان إذا كانوا قد نجحوا فى قيادة وتنظيم الجماعة، فإنهم لم ينجحوا فى قيادة سفينة الوطن». وما يهمنى فى المقالة انها حاولت وقتذاك ان تسلط الضوء على أحد مواطن الضعف فى الساحة السياسية المصرية، التى تكشفت بعد الثورة. وهى التى تمثلت فى غياب القيادات والأحزاب السياسية الأمر الذى كان مفهوما فى ظل موت السياسة وحالة الجذب والتصحر التى خيمت على ذلك المجال طوال العقود الأربعة السابقة على الأقل. وحين قلت ان جميع اللاعبين بمختلف اتجاهاتهم مجرد هواة «من الفرز الثانى أو الثالث». مشيرا ضمنا إلى أنه ليس بينهم سياسى من الطراز الأول، فإننى أزعم اننا مازلنا نقف عند نفس النقطة فى عام 2015. لست أقلل من قدر الأشخاص الذين أسجل لهم حقهم فى الاحترام، لكننى أتحدث عن حظهم من الاجماع الشعبى ورصيدهم فى الشارع المصرى.

لقد أصبح الفراغ عنوانا رئيسيا للحالة السياسية. هو ما أدركناه أثناء الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2012، وما نلمسه بصورة أوضح الان فى البلبلة والتجاذبات المخيمة على الإعداد للانتخابات التشريعية. ومن أهم العوامل المحركة لها إدراك الأحزاب السياسية انها لا وجود حقيقيا لها فى الشارع وانها لا تستطيع أن تغامر بخوض الانتخابات إلا فى إطار تحالفات تحملها إلى البرلمان القادم.

غياب القيادات والقوى السياسية لا يعبر عن ضمور الأحزاب وهشاشتها فقط ولكنه أيضا من أعراض ضعف المجتمع. ذلك ان الأحزاب السياسية تعد فى مقدمة الأوعية التى تمثل اتجاهات الرأى العام. وهناك أوعية أخرى لها أهميتها مثل النقابات المهنية والعمالية والتعاونيات والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدنى باختلاف انشطتها. هذه الكيانات ظل دورها غائبا خلال السنوات الأربع الماضية. فبعضها تم حله ووضعه تحت الحراسة، والبعض الآخر جرى تهميشه أو خضع للحصار والملاحقة. وإذا أضفنا إلى القائمة مؤسسات أخرى جرى إلحاقها بالسياسة بصورة أخرى، فى مقدمتها القضاء والجامعات والإعلام، فسوف نكتشف ان الأزمة أكبر من الأحزاب، وان المجتمع ذاته أصبح مغيبا بدوره ومنزوع العافية، وكانت النتيجة ان السلطة بأذرعها البيروقراطية والأمنية أصبحت هى الطرف الأقوى الذى لا يبارى أو ينازع.

لست أتحدث فى الوقت الراهن عن أوعية تعارض السلطة أو تتحداها. وهو ما تسمح به النظم الديمقراطية طالما تم ذلك بالطرق السلمية، لكننى أتحدث عن كيانات أو مؤسسات تحفظ التوازن فى مواجهة السلطة، فتقاوم تغولها وتسهم فى كبح جماحها بما يحول دون تسلطها وانفرادها بالتحكم فى مصير المجتمع. ولأن تلك المؤسسات لم تقم فإن المجتمع فقد أحد أهم حصاناته، ومن ثم احتلت تلك الثغرة رأس قائمة مظاهر الضعف فيه.

(3)

صحيح أن تيارات الإسلام السياسى تتحمل المسئولية الكبرى عن إجهاض الثورة. إلا أن السكوت على الأدوار الانتهازية التى لعبتها الأطراف الأخرى، خصوصا أولئك المنعوتون زورا وبهتانا بالمدنيين والليبراليين يقلل من عمق تحليل المشهد. فتلك التيارات كانت ولاتزال سلطوية بامتياز. سلطوية ثقافة وحركة وتنظيما وسياسة. لا تستطيع ان تنفك عن السلطة ولا تلعب سوى مع القوى. ترفع من شعارات المدنية وحقوق الإنسان كوسيلة للحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية. بينما هى فى حقيقة الأمر قوى رجعية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتعددية ولا بقيم حقوق الإنسان، فقط قلة عبرت عن تلك القيم ودفعت كثيرا جراء مواقفها الثابتة.. لكنها مازالت تبحث عن ونبحث معها عن النضوج.

الفقرة السابقة ليست لى. ولكنها مقتبسة من مقالة نشرتها جريدة «الشروق» فى 22/1 لكاتب جاد هو الدكتور أحمد عبدربه أستاذ العلوم السياسية، أثار فيه بعض الملاحظات المهمة حول ما سماه «المسكوت عنه فى أربعة أعوام»، من عمر ثورة يناير. وقد أغنتنى شهادته عن التفصيل فى تحرير «أزمة النخبة»، التى اعتبرها ضمن مظاهر الضعف التى تكشفت خلال السنوات الأربع الماضية، والتى أسهمت فى تشويه الإدراك العام وتشجيع الانقلاب على على الديمقراطية، كما غذَّت الاستقطاب المروع الذى ضرب الاجماع الوطنى، وأدى إلى معالجة الأخطاء بأخطاء أخرى مضاعفة. لى فقط ملاحظتان على شهادته. الأولى أنه فى إشارته إلى أطراف الأدوار الانتهازية تحدث عن المدنيين والليبراليين ولم يشر إلى دور اليسار الذى ساهم بنفس القدر وربما بحماس أكبر فى كل ما حدث من انتكاسات، باستثناء فئة قليلة بطبيعة الحال. الملاحظة الثانية ان الصراع والاصطفاف السلبى الذى انحازت إليه تلك القوى لم يستهدف فقط الحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية، كما ذكر الدكتور عبدربه. ولكنه أيضا كان يعمد إلى تصفية حسابات الخلاف الأيديولوجى من خلال عقد التحالفات التى يراد بها إقصاء الآخر من خلال قوة السلطة وأدواتها، ومن ثم إلحاق الهزيمة به على الصعيدين السياسى والأيديولوجى.

الشاهد انه خلال السنوات الأربع الماضية فإن أغلب عناصر النخبة انحازت إلى موقف السلطة بأكثر مما عبرت عن ضمير المجتمع وأشواقه. وفى حين أنها تخلت عن قيمها فإنها اختارت ان تقوم بدور التابع أو المحلل وليس الطليعة. كما بنت مواقفها انطلاقا من حساباتها ومصالحها الخاصة، وليس اهتداء بالمصالح الوطنية العليا.

(4)

فى كتاباته الأخيرة التى ندرت، ما برح المستشار طارق البشرى يدق الأجراس منبها ومحذرا من بعض مظاهر الضعف التى أصبح يعانى منها الواقع المصرى. ففى مستهل أحدث كتبه «جهاز الدولة وإدارة الحكم فى مصر»، تتبع إعلانات حالة الطوارئ منذ إقرار دستور عام 1923 وحتى الآن. وخلص من هذا الرصد إلى أنه «خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير عشنا فى مصر فى حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز إدارة الدولة، وتشكلت فى إطارها تجاربه ومهاراته وأساليب إدارته للشئون العامة وللتعامل مع المواطنين، بمعنى أنه فى «ثقافته» الإدارية وبحكم تجاربه وخبراته لم يستطع الحكم ولاممارسة عمله فى التعامل مع المواطنين إلا فى ظل ما انتجته «حالة الطوارئ» من سلطات وقدرات غير مقيدة. أى فى إطار سلطات طليقة من القيد ــ هذه الخلفية جعلته يعبر عن شكوكه فى أن امكانية الحكم وإدارته فى مصر، لم تعد تنفصل عن خبرة الاستبداد ومعارفه وعادات تعامله، واعتبر ان ذلك إحدى المشاكل التى واجهتها ثورة 25 يناير وما تعرضت له من انتكاسات بعد ذلك.

فى دراسة أخرى عنوانها «مصر بين الأمس واليوم» نشرتها صحيفة السفير البيروتية على ثلاث حلقات ابتداء من 8 يناير الحالى، أثار المستشار البشرى قضية أخرى فى تفسير ظاهرة الوهن الذى أصاب المجتمع المصرى وجرده من عافيته، بحيث أصبح عاجزا عن النهوض وتقديم نموذجه الحضارى. وهو يرجع ذلك إلى ظاهرة تآكل انهيار الطبقة الوسطى، مستعيرا فى ذلك عنوان الكتاب الذى أصدره الدكتور رمزى زكى بالصيغة ذاتها. وقصد بالطبقة الوسطى مختلف الشرائح الاجتماعية من الرواتب المكتسبة فى الحكومة والقطاع العام ومن الخدمات والمهن الحرة. واستشهد فى عرض رؤيته بما فعله السلطان العثمانى سليم الأول بعد فتح مصر عام 1517، حين ألحقها بدولته، وقضى فى الوقت ذاته على التشكل الحضارى الذى كانت تمثله فى العلوم والفنون والصنائع. فنقل إلى الاستانة أجمل ما أبدعته مصر، واستجلب إلى عاصمة ملكه عناصر النخب الثقافية والفنية والحرفية من المصريين، وهؤلاء هم الذين مثلوا الطبقة الوسطى فى ذلك الزمان وكانوا أعمدة نهوض البلد، وبسبب تفريغ مصر من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة فإنها شهدت انهيارا حضاريا أفقدها اشعاعها ومكانتها. وهو ما لم تستطع مصر أن تعوضه إلا فى عصر محمد على باشا، أى بعد نحو 300 سنة من الفتح العثمانى.

رأى المستشار البشرى ان الهجرة واسعة النطاق إلى دول الخليج منذ السبعينيات فرغت بدورها مصر من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة، الأمر الذى أوصلها إلى حالة شبيهة بما كانت عليه بعد غارة السلطان سليم الأول. وهو ما أسهم فى النتيجة التى تكشفت معالمها بعد الثورة. إذ أصابت الجميع حيرة جعلتهم عاجزين عن طرح مشروع حضارى متكامل الأركان وطنيا واجتماعيا واقتصاديا. الأمر الذى يكشف عن وجه آخر من أوجه الضعف الذى عانت منه مصر بعد الثورة، وباتت بحاجة إلى جهد خاص للتعافى منه.

(5)

غنى عن البيان ان ما سبق ليس حصرا لعوامل الضعف التى تكشفت خلال السنوات الأربع التى أعقبت الثورة، بقدر ما هو دعوة إلى فتح الملف وإدارة الحوار حول موضوعه بجدية ومسئولية. علما بأننى لست أشك فى أن هناك عوامل أخرى كشفت عنها خبرة تلك السنوات تحتاج إلى مناقشة (منها مثلا القيود والالتزامات التى تكبل حركة مصر فى المجال الخارجى، خصوصا ما تعلق منها بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل). فى كل الأحوال فليس المطلوب كشف العورات ولا جلد الذات، لأن الأهم هو ان تصوب الرؤى ويعاد ترتيب الأولويات بما يعالج الثغرات. علنا نتوصل إلى وفاق وطنى يجدد الالتزام بالحرية والديمقراطية ويدرك حجم الخسارة الفادحة التى تتحملها مصر وتدفع ثمنها من عافيتها ودورها جراء استمرار العبث بالديمقراطية والتهليل والنفخ فى الذات لتضليل الناس وتسويق أوهام العافية لهم.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.