الختيار، والشيخ.. والمستقبل - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الختيار، والشيخ.. والمستقبل

نشر فى : الأحد 27 أبريل 2014 - 8:10 ص | آخر تحديث : الأحد 27 أبريل 2014 - 8:10 ص

فى مارس ٢٠٠٩، وبعد انتهاء عملية «الرصاص المصبوب» التى راح ضحيتها ما يزيد على الألف فلسطينى إلى جانب خمسة آلاف من الجرحى، قالت تسيبى ليفنى «داهية الدبلوماسية الإسرائيلية» للنيوزويك الأمريكية عندما سألتها عن العرب المعتدلين ما نصه: «لا أريد إحراجَ أحد، ولكنى أعلمُ أنى أمثل مصالحهم أيضا. لم نعد اليوم أمام صراع إسرائيلى فلسطينى أو عربى يهودى، بل أمام صراع بين المعتدلين والمتطرفين.. هكذا تنقسمُ المنطقة اليوم»

بغض النظر عما إذا كانت ليفنى «ذات التاريخ الاستخباراتى» تصفُ حاضرًا يومها، أو تتكهنُ بمستقبل لم تغب أصابعها عنه، إلا أن مخاطرَ التغيرات الدراماتيكية لمعادلات القوى فى المنطقة، إلى جانب إنقلاب في «مفاهيم الصراع» فيها كانت حاضرةً بقوة وراء دفع «أشقاء الهَّم الواحد» فى غزة ورام الله إلى مفاجأة الجميع بمصالحةٍ تأخرت سبعَ سنوات «عجاف» كاملة، يلبون بها مطلب جيل جديد قلق بدا أنه توحد حول شعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، على شاكلة شعار الربيع الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام»، متبادلين على مواقع التواصل الاجتماعى صورة لياسر عرفات «الختيار» مع الشيخ أحمد ياسين (أكتوبر ١٩٩٧)

•••

لتاريخ الانقسام الفلسطينى قصةٌ ذات دلالة، يختلط فيها إنكار أطراف محلية ودولية ما لديموقراطية الصندوق من استحقاقات، مع نزق صاحب الأغلبية وضيق أفقه عن إدراك استحقاقات اللحظة ونسبية السياقات

لا أحد بوسعه أن ينكر «نظافة يد» التنظيم الإسلامى الذى نجح سريعا فى القضاء على الفساد الحكومى الذى أصبح مرضا لصيقا بجميع أنظمة الحكم السلطوية العربية المترهلة، كما ليس بوسع أحد أن ينكر نجاحه فى بسط الأمن على أزقة القطاع وعشوائياته. ولكن لا أحد بوسعه أيضا إلا أن يلحظ أن «استحضارَ مطلقِ الدينِ الذى لا يقبل أصحابُه نقاشا إلى نسبيةِ الواقع ومتغيراته» مثَّل تحديا حقيقيا أمام الذين تصدوا «لإدارة» القطاع، والذين كان صعبا عليهم أمام ناخبيهم أن يتخلصوا من حقيقة أنهم جاءوا إلى الحكم من باب الدين لا السياسة. ولعل الدكتور نافذ المدهون أمين سر المجلس التشريعى الفلسطينى، والحاصل على شهادة جامعية عليا من جامعة مينيسوتا، يذكر كم كانت مهمته صعبة مع بعض أولئك الذين لم يدركوا أن أربعة عشر قرنا كاملة من الزمان قد مرت. كان بعض هؤلاء من داخل حماس نفسها، إلا أن أكثرهم عنفا كان أولئك الذين اتهموا الحركة بالتنكر لشعاراتها الإسلامية. (هناك بعد ذلك من أحرج حماس «الحاكمة» باختطافه مراسل BBC فى القطاع Alan Johnston وهناك من دعا يوما لتخليص غزة من الوثنية مطالبين بإزالة تمثال الجندى الفلسطينى المجهول من الميدان الرئيس للبلدة).

لم تكن تلك طبعا هى الظاهرة العامة، ولكن الثابت أن تجربة الحكم الواقعية مثلت تحديًا أمام الحركة الاسلامية التى عاشت «كحركة إخوانية» على ترويج المقولات الدينية «المطلقة»، والتمايز عن «الآخر» طبقا لهذا المعيار «الدينى» لا غيره. فلليوتوبيا مكان آخر، وإدارة الأمور واقعيا على الأرض لم تكن أبدا بسهولة التلقين فى جلسات «العشائر والأسر».

يذكر المؤرخون لسبع سنوات من حكم حماس، وفى ملف المسافةِ الواقعيةِ بين شعاراتٍ «دينيةٍ» أوصلتها للحكم، وبين مقتضياتٍ «عمليةٍ» لهذا الحكم، كيف دفعت حماسُ ثمن استدعاء الدين «الذى هو مطلقٌ بطبيعته» إلى ساحةِ السياسة «التى هى نسبيةٌ بطبيعتها». ويذكروننا بما كان أكثر من من مرة من تحديات من جانب قوى؛ بعضها «مسلح» تستخدم «الخطاب الدينى» ذاته. ففى أحد أيام صيف ٢٠٠٩ الحارة ألقى عبداللطيف موسى «أبو النور المقدسى»، أحد الدعاة فى رفح كبرى المدن على الحدود المصرية، خطبة بعد صلاة الجمعة أمام عشرات من مؤيديه «المتحمسين» المسلحين، معلنا أنه إذا لم تكن لدى حماس الشجاعة لإعلان غزة «إمارة إسلامية»، فإنه سوف يفعل ذلك هنا وعلى الفور. لم يكن أمام حماس ساعتها إلا أن تنهى الموقف على طريقتها، فكانت المحصلة ثمانية وعشرين قتيلا من الجانبين.

يبقى على الهامش أن قرار حركة «المقاومة» الإسلامية حماس، بالانتقال من خندق المقاومة، إلى كراسى السلطة، لم يكن بلا ثمن. إذ خسرت «المقاومة» ما يتيحه لها البقاء خارج «المنظومة الرسمية» من حرية حركة ومناورة، مطلوبة وأساسية لأى حركة تحرر «مسلحة» فى عالم اليوم الذى تزداد حساباته تعقيدا. فرغم حقيقة أن إدارة حماس لغزة كانت «العامل المعطل» لإنهاء القضية دراماتيكيا على طريقة أوسلو، يطرح كثير من الباحثين (من بينهم عزمى بشارة) تساؤلات جدية حول ما خسرته واقعيا كلٌ من حماس والقضية بانتقال «حركة مقاومة الاحتلال» إلى مقاعد السلطة؛ أسيرة لقيودها والتزاماتها أمام المواطنين وسلطة الاحتلال والمجتمع الدولى.

أيا ما كان الأمر فيبدو أن الاختلاف حول مبادئ إدارة الصراع مع إسرائيل لن يكون هو التحدى الأكبر، أو الوحيد للمصالحة كما يعتقد البعض. فمؤتمر مكة (٦-٩ فبراير ٢٠٠٧) الذى حضره عباس ومشعل وهنية أسفر عن اتفاق تضمن قبولا صريحا من حماس بدولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ (بشير نافع: «حماس.. الطريق إلى الأزمة»، وجهات نظر، يناير ٢٠٠٩) رغم ذلك تظل أسئلة ما بعد القبلات كثيرة. والتحديات أكثر. «فإعلان مكة» المشار إليه، والذى أكد يومها حرمة الدم الفلسطينى لم يمنع سقوط العشرات فى اشتباكات بين الجانبين صيف العام نفسه، بعد أن ذهبت السلطة بعيدا فى اعتقادها إمكان إخراج حماس من المعادلة، وبعد أن ذهبت حماس بعيدا فى اغترارها بقوة لم تكن لتصبح قادرة أبدا على مواجهة تحديات المستقبل سياسية وتفاوضية واقتصادية فى غياب جبهة وطنية موحدة. كانت «المعركة الصفرية» بديلا أحمق بلا شك. دفع ثمنه المواطن الفلسطينى، ودفعت ثمنه «القضية».

•••

الرسائل الكامنة فى صور المصالحة، والترحيب الشعبى بها كثيرة ومتنوعة.. منها:

١ــ أن ما بدا من واقع أن «القضية» بدأت تتوه وسط ركام المتغيرات المتلاحقة، كان عاملا حاسما فى دفع الأطراف كلها إلى «قدر المصالحة».

٢ــ أن المقدمات والسياقات «الحاكمة» لما جرى فى غزة تنوعت وتشابهت. فمن ناحية حماس، وعلى الطريقة التونسية ربما، كان الدرس المصرى، والغياب السورى ماثلين فى الأذهان فكان الاتفاق الذى حرص موقعوه على الإشارة إلى الدور المصرى فى خاتمته (وكذلك فعل إسماعيل هنية فى كلمته) وربما إدراك دقة اللحظة وحقيقة أن للمستقبل ثمنا، وأن هذا الثمن هو المصالحة. أما «فتحويا»، فأحسب أن المسئولين فى «السلطة» الفلسطينية باتوا يدركون أن درس التاريخ الثابت يقول أن «وحدة الجبهة الداخلية» شرط لا غنى عنه لأية معركة، سواء كانت فى ميدان القتال، أو على طاولة المفاوضات أو حتى مع تحديات النهضة والتقدم.. والمستقبل.

٣ـ ــ أنه لم يكن ممكنا عمليا ولا واقعيا.. بل ولا بمعايير الإنصاف إخراج حماس من معادلة المستقبل. أو تجاهل وجودها (أو بالأحرى ما تمثله من تيار وفكر). والأهم أن لا فائدة تذكر من ذلك. إذ إن الاعتراف بالواقع، وبحق الجميع فى الوجود، مع الإدارة الناجحة للتنوع والاختلاف هو الطريق الوحيد الذى عرفه العالم الحديث للتقدم والنهضة. أعرف أن سجل ما سمى بجماعات الإسلام السياسى، لاعتبارات بنيوية مفهومة (لا بد من حسمها أولا وبكل حزم) لم يكن أبدا جيدًا فى هذه الناحية. ولكن الخطأ لم يكن أبدا ليبرر الأخطاء المماثلة، بل لعل من الحكمة أن تكون تجارب الآخرين الفاشلة درسا لمن يريد أن يتجنب فشلا مماثلا فى قادم الأيام.

٤ــ أنه كما كان فلسطينيو منظمة التحرير سباقين عربيا فى الديموقراطية واحترام التنوع والرأى الآخر، يبدو أنهم اليوم سيكونون السباقين أيضا فى تنبيهنا إلى حتمية الخروج من خندق الاستقطاب.

•••

وبعد..

فقد يكون صحيحًا أن لا أحدَ يضمن أن اتفاق المصالحةِ سيصمد أمام تحدياته الواقعية، أو حتى أمام المحاولات الإسرائيلية «المتآمرة لإسقاطه»، ولكن يبقى من باب المفارقات الدالة أن اتفاقَ المصالحة فى غزة جاء نتيجة جهدٍ متراكم للقاهرة والدوحة، أكرر: القاهرة والدوحة. وأن موسى أبو مرزوق أحد مهندسى الاتفاق وعضو المكتب السياسى لحركة حماس والمقيم فى القاهرة سافر إلى غزة لحضور الاجتماع عبر معبر رفح فى اليوم التالى مباشرة لمحاكمة محمد مرسى وصحبه بالتخابر «مع حماس» ذاتها. يبقى ذلك وغيره فى باب التفاصيل التى ينبغى أن يتوقف عندها أولئك الذين حصروا أنفسهم فى مربعاتٍ بدا أنها تضيق بهم كما ضاقت بأفكارهم. ولكن الأهم من ذلك كله أن صورة قبلات الإخوة فى غزة جاءت ببصيص أمل نبحث عنه للخروج من ذلك الاستقطاب الدموى المميت الذى يضرب منطقتنا؛ طائفيًا فى غير قطر عربى، وسياسيًا «وشعبيًا» فى القطر العربى الأكبر «مصر».

مع ما هو مطلوب من «الجميع» من إدراك أن «كلَنا» مسؤول بدرجة أو بأخرى (وإن اختلفت الدرجات) عن تعبيد الطريق إلى ما وصلنا اليه من استقطاب، نرجو فقط من قصار النظر المتخندقين فى خنادق الكراهية «هنا وهناك» أن يستعيدوا الصورة القديمة «للختيار والشيخ» وأن يتأملوا ما جرى فى غزة جيدا، وأن يصمتوا قليلا، وأن يبتعدوا.. فأزهار «الربيع» الذى بدأ رسميا هذا الأسبوع لا تنمو فى أجواء الكراهية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ في الدفاع عن «القضية»٠

ــ حماس ليست غزة.. وغزة ليست فلسطين

ــ في البحث عن المشترك (١)٠

ــ في البحث عن المشترك (٢)٠

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات