دقيقتان وست وعشرون ثانية في سيناء - عمرو عز الدين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دقيقتان وست وعشرون ثانية في سيناء

نشر فى : الخميس 27 يوليه 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 27 يوليه 2017 - 10:50 م

رجل لا أعرفه استطاع أن يغمرني بمشاعر فخر لم أشعر بها منذ زمن بعيد جدا، قائد الدبابة الذي سحق بها عربة مفخخة، أراد راكبوها ومَن وراؤهم الغدر بارتكاز أمني في سيناء بمن فيه من مدنيين وعسكريين على حد سواء، فأنقذ بفعلته هذه تلك الأرواح، والله أعلم بحالته الصحية الآن بعد تلقيه الموجة الانفجارية التي شاهدناها جميعا في فيديو بلغت مدته دقيقتان وست وعشرون ثانية فقط، ووصلت مشاهداته على صفحة المتحدث العسكري للقوات المسلحة بموقع «فيسبوك»، ما يقرب من مليون مشاهدة حتى لحظة كتابة هذه السطور، وما يزيد عن 26 ألف إعادة مشاركة من رواد الصفحة.

 

يقول المثل الشعبي «اللي على البر عوام»، وهو مثل ينطبق على البعض ممن حاولوا التفتيش في النوايا وإطلاق تساؤلات «بلهاء» عن كيفية معرفته بأن السيارة مفخخة ومن بداخلها إرهابيين؟ أو لماذا سحقها بدلا من حمايته للمدنيين وإبعادهم عن موقع الخطر؟ بل ودفعت ببعضهم إلى جرأة إطلاق سؤال وقح: «ما الذي يدفعه للانتحار بدلا من إنقاذ الآخرين؟»، وكأن ما فعله انتحارا في منطقهم الملتوي، هذا غير سؤال لا ينم إلا عن جهل وتدنٍ في مستوى التفكير والتحليل الذي صار متاحا لكل من أراد، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي طبعا، عن عدم انفجار السيارة بما تحمله من متفجرات رغم مرور الدبابة عليها وسحقها؟.

هي تساؤلات بالفعل «بلهاء وغير مسؤولة» لأنها تخرج من بعض الناس ممن يتكلمون ويحللون وهم أبعد ما يكونون عن منطقة الخطر التي كان يقف فيها، وأكاد أجزم أنهم لو كانوا هناك لشلّتهم المفاجأة وما نجحوا في إنقاذ ذبابة من ذلك الانفجار. حيث إن عربة تسير بتلك السرعة في اتجاه ارتكاز أمني وبدلا من وقوفها في طابور السيارات التي تنتظر التفتيش لتمر في سلام، وقفت في مواجهة دبابة عسكرية، وكأن من الصعب على قائد الدبابة ومن معه رؤية من بداخلها وتسليحهم وربما كونهم ملثمين أم لا. بل إن التساؤلات تفترض أن وقوف عربة في مواجهة دبابة هو «أمر طبيعي» لا يسترعي الانتباه في مكان مثل سيناء مستهدف بشكل متكرر من هؤلاء المرتزقة ومحركيهم ومموليهم.

هي تساؤلات لا أرضية صلبة تقف عليها، لأن المسلحين في العربة ما كانوا ليبقون أماكنهم بعد انكشافهم، فإذا حاول قائد الدبابة إبعاد المدنيين وترك الإرهابيين لنزلوا من أماكنهم وفتحوا النار بشكل عشوائي لإلحاق أكبر ضرر ممكن بمن في المكان، كل هذا قبل تفجير العربة لتنتهي مهمتهم بالنجاح الذي يبغونه.

رد فعل قائد الدبابة لا يمكن لإنسان طبيعي مثلنا أن يقدم عليه بهذه السرعة وفي ثوان معدودة، وبشكل خاطف ربما أذهل الإرهابيين داخل العربة حتى أنهم ولا ريب استوعبوا ما يحدث بعد أن صارت جثثهم مطحونة مع معدنها المعجون على الطريق، كل هذا قبل استدارته وعودته بالدبابة، بل ومروره جوار سيارة أخرى على الجانب الآخر من الطريق دون أن يمسها رغم شبه ملاصقتها للدبابة، في براعة يُحسد عليها ونقف لها إجلالا، ليحمي زملاءه وبقية الأرواح المتواجدة في الارتكاز الأمني.

هل ختم الله على قلوبهم فما عادوا يفقهون لدرجة أنهم يكذبون ما تراه أعينهم؟ أم أن الخلط بين الموقف السياسي والموقف الوطني جعل من الصعب عليهم فهم طبيعة الصراع الدائر هناك؟ أم أن حب الظهور وجمع «اللايكات» على مواقع التواصل الاجتماعي كان أقوى منهم، حيث إنهم لن يستطيعوا الإشادة بما يحدث، إذن فلنلقي التساؤلات في ثوب الحكماء الذين لا يشيدون ولا ينتقدون؟ لكن الموقف هذه المرة لا يحتمل حيادا، بل يحمل وضوحا ربما تراه كائنات المجرات الأخرى دون الحاجة لقدومهم إلى هنا ورؤيته.

تلك التساؤلات البلهاء ومن أطلقها تنزع منّا الثقة فيهم، وتدفعنا لمراجعة تحليلات أخرى أطلقها نفس الناس وغيرهم عن مواقف مشابهة أو حتى غير مشابهة، إنهم «يفتون بغير علم»، كما وصفهم كل إنسان شاهد تلك البطولة بعينيه فاقشعر بدنه لها ودمعت عيناه وهو يتمتم «الله أكبر»، فكيف نثق فيهم في أي شأن آخر؟ ما هي مؤهلاتهم للحكم أو التحليل غير تضخم في الذات يصور لهم أن تلك القطعة الموجودة في رؤوسهم تعمل على ما يرام ويأتيها الحق من حيث لا ندري نحن؟ كيف أثق فيمن مرجعيته هي أفلام «هوليوود» حيث تتلامس سيارتان فيحدث الانفجار الضخم بينما يسير البطل بهدوء خارجا من بين النيران في مشهد بطيء مؤثر؟

دقيقتان وست وعشرون ثانية في سيناء توقف عندها التاريخ وسيتوقف كثيرا، وستمتد آثارها لأعوام وأعوام لا تحصى، حملت ما حملت من قوة وبسالة وسرعة استجابة عالية ومهارة وعدم رهبة وثبات انفعالي لم أر له مثيلا. بطولة قلما نراها تدفعنا دفعا لاحترامها واحترام صاحبها الذي لن نعرفه الآن وربما لن نعرفه مطلقا، وهي نفس البطولة التي أسقطت الكثيرين من حساباتنا ممن يدعون قدرتهم على التفكير المنطقي وقد تبرأ منهم المنطق وباتت تشوهاتهم النفسية أوضح مما كان من قبل. لكن على الرغم منهم ومن منطقهم المشوه في التفكير، أرسل لقائد الدبابة المجهول تحية لا توفيه قدره وأحمل له احتراما سيظل ممتدا لما شاء الله.

عمرو عز الدين كاتب وصحفي مصري
التعليقات