جريمة الروضة فيما وراء القوة الغاشمة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 8:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جريمة الروضة فيما وراء القوة الغاشمة

نشر فى : الإثنين 27 نوفمبر 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 27 نوفمبر 2017 - 9:50 م
للوهلة الأولى، بدت الصور القادمة من مسجد الروضة ببئر العبد فى شمال سيناء وكأنها قادمةٌ من أحد مساجد بلدةٍ غريبة تعانى فراغا أمنيا أو مزقتها صراعاتٌ طائفية أو اجتاحها عدوان غاشم. شابهت الصور تلك التى حملت من قبل بصماتِ قاعدة باكستان أو إمضاءات عصابات الزرقاوى والبغدادى أو آثار جيش الاحتلال الصهيونى. باختصار، صور من خارج المكان وإن كانت تنتمى لفرط وحشيتها إلى هذا الزمان. لكنها جاءت من مصر، وأتت متراكبةً مع صور جرائم أخرى فى سيناء والواحات والمنيا والبطرسية والمرقصية والطائرة الروسية، وقائمة من جرائم الإرهاب التى تترصد المدنيين وأبناء الشعب المجندين فى الجيش والشرطة بلا تفرقة. لكن المفاجأة هى أننا ككل مرةٍ قد تفاجأنا، وككل مرةٍ تجدد العهد باعتماد أقصى درجات الثأر.

تفاجأنا وفجعنا فجيعةً غشاها الذهول، لأنه لم يحدث من قبل أن تم استخراج 300 شهادة وفاة فى يوم واحد لمصريين قضوا فى مقتلة واحدة! لم يحدث من قبل أن عرف المصريون المقابر الجماعية التى اضطّر الرجالُ القادمون من قرية «مزار» المجاورة أن يحفروها طوال الليل، حينما امتلأت مقابر قرية «الروضة» عن آخرها؛ ليواروا فيها جثث جيرانهم وأحبائهم! لم يشهد المصريون العُزّل واقعةَ إعدام جماعى بالرشاشات والقنابل استمرت أكثر من خمس وأربعين دقيقة وقضت على ربع سكان القرية الذكور دفعة واحدة!

هنا خطوة أبعد على مسار التهديد الوجودى الذى بات يمثله الإرهاب المتربص بمصر، رغم استمرار تطبيق حالة الطوارئ، وما عُرف عن جيشنا من جاهزية قتالية وقوة عتاد وامتلاك لأحدث الأسلحة. ففى وقت بدأ وجود عصابات داعش ينحسر فى سوريا والعراق، تبدو ذراع ولاية سيناء وكأنها تتلقى إمدادات نوعية جديدة من المقاتلين الفارين من المعارك الخاسرة فى هذين البلدين، فضلا عن الإمدادات القادمة من قواعد تنظيم الدولة فى ليبيا عبر شريط حدودى ممتد جرى الاعتراف بصعوبة تأمينه غير ذات مرة. ولقد وجدت هذه العناصرُ تربةً حاضنة فى النصف الشمالى من سيناء الذى ظل لعقود طويلة بمنأى عن التنمية، فمثَّل عمقا جغرافيا مواتيا لتنامى عناصر الفوضى المتوحشة، الخارجة على أسباب الحكم والإدارة، من عصابات التهريب وجماعات الإرهاب، وتوفر السلاح بكميات يصعب حصرها أو السيطرة عليها. 

***

تفاجأنا و غَشِيَنا الذهول، رغم أن كل الرياح كانت تنذر بالمصاب الجلل الذى حملته ظهيرة يوم الجمعة الماضى. إذ ليس سرا أن الجماعات التكفيرية استهدفت الصوفيين فى شمال سيناء بصورة معلنة. فمن الناحية العقدية، يعتبر السلفيون الجهاديون الذين يشكلون جماعة ولاية سيناء أن الصوفيين مشركون يستوجبون الاستتابة، وإن هم لم يتوبوا وجب عليهم القتل على حد معتقدات التكفيريين. وعليه لم تكن النوايا خافية. فقبل عام كامل، اختطف مسلحون منتمون لولاية سيناء الشيخ سليمان أبو حراز، كبير الطرق الصوفية فى سيناء، وقاموا بقطع رأسه والتمثيل بجثته ونشر صوره فى نشرتهم الأسبوعية. وفى زمان يتخذ القتلةُ فيه نشرةً أسبوعية يعرضون فيها نواياهم ومخططاتهم وميولهم الفكرية يصبح من العسيرِ ادعاء المفاجأة، أو القولُ بأن الواقعة لم يسبقها تمهيد، أو أن الحرب الشعواء التى يشنها دواعش سيناء على الصوفيين لم تكن واضحةً بالقدر الكافى، وهم ينسفون الأضرحة ويمنعون تجمعات الإنشاد ويخطفون المتصوفين ويوقِّعون عليهم الحسبة والحد.

غير أن أخطر ما يلوح فى الأفق، على أثر الدماء البريئة المسفوحة أثناء الصلاة فى مسجد «الروضة»، هى تلك الدعوة إلى تسليح قبائل سيناء وتحميلهم مسئولية «الثأر» لدماء أبنائهم. وهى دعوة رفعتها الأصوات التى اعتادت المزايدات، والتى تتحرى اتجاه القيادة وتذهب فى اقتفائه حد الشطط. فما إن أعلن الرئيس عن عزم الجيش والشرطة الثأر للشهداء باستخدام «القوة الغاشمة»، حتى تعالت الدعاوى لتسليح العشائر وتحميلهم مسئولية القصاص لأهلهم. وهو ما يعنى الدخول بسيناء وبالبلاد إلى دائرة الانتقام المفرغة والمراوحة بين العنف والعنف المضاد. وأذكر بهذا الصدد، ما قامت به الحكومة الباكستانية قبل عامين من تسليحِ أساتذة المدارس على أثر الهجوم الإرهابى الذى استهدف مدرسةً فى بيشاور، وما كان لذلك من آثار وخيمة على استقرار الإقليم وارتفاع نسبة الجريمة. وربما يجدر بنا ألا ننسى أيضا أن كثيرا من حوادث الإرهاب فى الولايات المتحدة تنتج أساسا عن انتشار السلاح بين أيدى المواطنين. 

***

لا ننكر ضرورة أن يشعر المواطن المصرى فى سيناء وخارجها بالمسئولية تجاه أمنه الوطنى، وأن يشارك فى محاصرة الفكر التكفيرى بمنع انتشاره ووأد بذوره، لكن أن يتم تزويده بسلاحٍ وتوكل إليه مهمة الدفاع ومسئولية «الثأر» خارج نطاق القانون فهذا الذى أحسب أنه الشر بعينه، وأحسب أيضا أن القيادة ما كانت لتُقدم على هذه الخطوة لاعتبارات كثيرة. لكنها مزايدات المزايدين الذين لا يدركون مبلغ خطورة تداول السلاح بصورة أكبر فى هذه البقعة الملتهبة. ولعل جملة وردت فى بيان اتحاد قبائل سيناء، الصادر إثرَ المذبحة، إذ يقسمون على القصاص من التكفيريين، تشى بتلك الخطورة. فقد كتبوا منذرين: «ليس لدينا لكم محاكمات أو سجون»، وهو ما يعنى خروج القصاص عن إطار القانون وتخطيه بالضرورة لسلطة الدولة، حتى وإن أعلن البيان عن «تنسيق لعملية كبرى مع الجيش». فمثل هذه المبادرات ما تلبث أن تصنع على المدى الطويل مراكز قوى تستمرئ لعبة السلاح فى نهاية المطاف. 

إن اللحظة الراهنة تقتضى أقصى درجات التعقل وتستلزم أعلى مستويات ضبط النفس. فالقوة الغاشمة منهِكة لأصحابها، تستنفد القوى، وتقطع الأنفاس، وتمنع إعادة الحسابات وتغيير الخطط واستخدام المهارات. فيما المنتصر فى تلك المعارك هو دائما صاحب النفس الأطول والتخطيط الأرجح.

سيناء ليست وحدها سنقف معها وندافع عنها ونعمرها بعد تطهيرها من بذور الغدر وجنون الحاقدين.

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات