الحلقة المفقودة - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 7:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحلقة المفقودة

نشر فى : الإثنين 28 يونيو 2010 - 10:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 28 يونيو 2010 - 10:50 ص

 يتعامل الوسط الثقافى المعاصر غالبا مع الشاعر الكبير أحمد رامى الذى وافته المنية فى الرابع من هذا الشهر عام 1981 بوصفه مؤلفا غنائيا، وتشهد بهذا حيثيات حصوله على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1967 التى نصت على أنه «ولما كانت الأغنية المصرية قد مرت بها فى العهود الماضية فترة انحطاط، فقد كان الأستاذ رامى أسبق الشعراء إلى حمل الأغنية بالاضطلاع بتهذيب ألفاظها والسمو بمعانيها ورفع مستواها مما أدى إلى النهضة التى بلغتها الأغنية العربية فى عهدنا الحاضر».

وقليلا ما يلتفت المهتمون بالشعر حاليا إلى أن رامى شاعر فصحى فحل، وربما يرجع السر فى ذلك إلى سببين؛ الأول شهرة أغانيه التى ارتفعت مع غناء أم كلثوم إلى عنان السماء فحجبت الرؤية عما عداها. والثانى أن دواوينه الفصيحة قد صدرت فى أعوام 1918و1920و1923 أى أنها تبعد عن متناول القارئ المعاصر للشعر تسعين عاما بالتمام والكمال.

وربما أدركنا من تصدير دواوينه بمقدمات لأحمد شوقى وخليل مطران وحافظ إبراهيم قيمة هذا الشاعر فى عيون معاصريه من كبار الشعراء. وقد هنأهُ شوقى تهنئة شعرية مثبتة فى الشوقيات
عند صدور ديوانه الثانى قال ضمنها:

يا راميا غرض الكلامِ يُصيبُـهُ لك منزعٌ فى السهل ليس يُرامُ
خذ فى مراميك المدى بعد المدى إن الشباب وراءه الأيـامُ
أما زهير فقـد سما هَرِمٌ بـه ولتسمُوَنَّ بشعرك الأهـرامُ
فخذ النبوغ عليه وارقَ رُقيَّـهُ ولكل بدر مرتقى وتمـامُ

وأبيات شوقى السابقة تجمع بين روعة الإبداع وعبقرية النقد، فقد وضع يده على أن المزية الكبرى فى شعر رامى الفصيح هى إصابة المعانى الصعبة بالألفاظ السهلة التى تمتنع على غيره. كما أنه قد ربط بينه وبين الشاعر زهير بن أبى سلمى ــ الذى خلد بمدحه هَرِم بن سنان ــ دون غيره من شعراء الجاهلية الكبار، وقد قال طه حسين عن زهير فى حديث الأربعاء بجريدة الجهاد عام 1935، «أما زهير فإنى أراه قريبا منا، يسيرا علينا، لا نجد فى قراءته جهدا، ولا نحتمل فى فهمه مشقة، ولا نحس بيننا وبينه هذه الفروق العظيمة التى نحسها بيننا وبين غيره من الشعراء».

فخبرة شوقى النقدية فى المقطع السابق بشعر زهير تطابق رؤية طه حسين، لهذا فإن نبوءته بأن يرتقى شعر رامى رقى شعر زهير وأن تسمو به الأهرام، نبوءة يجب أن تؤخذ مأخذ الجد ولا يتم التعامل معها بوصفها مجاملة مناسبات.

وقد صدقت نبوءة شوقى فى شعرية رامى وإن تحولت إلى مسار جديد فى حينه وهو شعر العامية. فإذا كان الشاعر صالح جودت يرى أن رامى قد أضاع زهرة العمر فى نظم الأغانى الدارجة، وهى ضرب من الزجل، فإن المراجعة الفنية لما كتبه رامى فى عاميته تثبت أنه شعر حقيقى عميق المغزى بارع التصوير، وليس مجرد زجل مباشر منظوم ليطابق ألحان الغناء.

ويمكننا أن نرى نموذجا لعمق المغزى فى قول رامى بقصيدة «جددت حبك ليه»:
وازاى أقول لك كُنَّا زمان والماضى كان فى الغيب بكره
واللى احنا فيه دلوقت كمان ح يفوت علينا ولا ندرى

إن رامى يؤسس كتابته للمقطع السابق الذى يبدو سلسا بسيطا على البرهان المنطقى الشهير للآنية ونفى الآنية. وهذا البرهان المتناقض يشير فى شقه الأول إلى أن الماضى حدث وانتهى، والمستقبل لم يأتِ بعد، ولهذا فنحن نعيش فى حاضر مطلق. أما شقه الثانى فيشير إلى أن كل حدث إما أن يكون قد حدث بالفعل فهو ينتمى للماضى، وإما إنه لم يحدث بعد فهو ينتمى للمستقبل، وبالتالى فلا وجود للحاضر المزعوم.

وحتى هذا التناقض المنطقى الصورى الذى تلاعب به الفلاسفة، قد تمكن رامى بإبداعه من تجاوزه فى قصيدة «رق الحبيب» حيث قال:

من كتر شوقى سبقت عمرى وشوفت بكره والوقت بدرى
وإيه يفيد الزمن مع اللى عايش فى الخيال
حيث عبر رامى هذا التناقض المنطقى المفتعل، وتجاوز الحدود الفاصلة بين الماضى والحاضر والمستقبل بالعيش فى عالم خيالى سرمدى مبدع لا يعرف حدودا للزمن.
أما براعة التصوير الشعرى فيكفى للدلالة عليها قوله فى مفتتح قصيدة «فاكر»:
فاكر لما كنت جنبى والنسيم لاعب غصون الشجر
والغصن مال ع الغصن قال ما أحلى الوصال للى انتظر

وهى القصيدة التى يقول داخلها:
والموجة تجرى ورا الموجة عايزه تطولها
تضمها وتشتكى حالها من بعد ما طال السفر

فلا يمكن لهذه الصور الشعرية أن توصف بأنها زجل غنائى لمجرد كتابتها بالعامية، أما بساطة عناصرها فتحسب لها لا عليها، فكلنا شاهدنا هذه المناظر، لكن رامى وحده هو الذى استطاع أن يرتشف ما بها من جمال ويعيد إنتاجه بما لديه من شاعرية.

على أن هذه السهولة الممتنعة تنم فى كثير من الأحيان عن تمكن بلاغى مقتدر يظهر فى البناء اللغوى للمربعات الشعرية التى كان يميل إليها رامى غالبا فى كتابة قصائده، حيث يقول مثلا فى قصيدة «غلبت أصالح فى روحى»:

أنا اللى أخلصت فى ودى وفضلت طول العمر أمين
ياخد الزمان منى ويدِّى وقلبك أنت علىَّ ضنيــــن

وفى مثل هذا النسق من البناء الشعرى تحتل الكلمة الأخيرة فى الشطر الثالث بؤرة المقطع وهى كلمة «ويدِّى» فى النص السابق، وقد برع الشاعر فى جعلها القلب النابض الذى يضخ المقطع دماء الموسيقى عبر تصديرها بواو العطف «ويدِّى» لتحدث جناسا صوتيا مع كلمة «ودى» فى ختام الشطر الأول. كما جعلها تضخ دماء البلاغة بحكم تقابلها المعنوى مع كلمة قافية الشطر الرابع «ضنين» فالعطاء مقابل للبخل. وهى بعد هذا الربط الرأسى الموسيقى والأفقى البلاغى تفتح فضاء النص ليكمل المتلقى دلالته من خلال تصوره لعائد الضمير فى كلمة «يدِّى»: فإذا رأى القارئ أنه يعود على الشاعر ستكون الأيام عادلة تأخذ من الشاعر وتعطيه إلا مع هذا الحبيب الجائر، أما إذا رأى القارئ أن هذا العطاء يعود على الآخرين فإن الزمان نفسه سيصبح جائرا على الشاعر أيضا مثل محبوبته.

وأظن بعد كل ما سبق أنه علينا الاعتراف بأن سلسلة ريادة شعر العامية المصرى التى ألفنا أن نبدأها ببيرم التونسى ثم ننتقل بعده مباشرة إلى فؤاد حداد تحتوى على حلقة مفصلية مفقودة فى المنتصف جديرة بأن تأخذ موضعها عند التأريخ لهذا اللون من الإبداع، هذه الحلقة المفقودة هى الشاعر الكبير أحمد رامى.

التعليقات