قرافة القاهرة المغلوب على أمرها - مىّ الإبراشى - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قرافة القاهرة المغلوب على أمرها

نشر فى : الخميس 28 سبتمبر 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الخميس 28 سبتمبر 2017 - 9:15 م
إن القرافَةَ قد حوت ضدينِ من دنيا وأخرى فهى نِعمَ المنزلُ 
يغشى الخليعُ بها السماعَ مواصلًا ويطوفُ حولَ قبورها المتبتلُ 
(موسى بن محمد بن سعيد المغربى)

من الصعب أن تجد مصريا لا يعرف أن السيدة نفيسة والإمام الشافعى مدفونان بالقاهرة. بل إن أغلب القاهريين لابد أن يكونوا قد زاروا أحد هذين الضريحين وعددا لا بأس به دائم التردد على السيدة نفيسة على الأقل. وقد يعرف بعض القاهريين اسم أو موقع الجامع المطبوع على الجنيه المصرى ــ وهو جامع الأشرف قايتباى الواقع بمقابر قايتباى. ولن يختلفوا على أن جميع هذه المبانى تعتبر مواقع ذات أهمية تاريخية ودينية. ومن يزور المبانى الأثرية منها – مثل ضريح الإمام الشافعى الذى يرجع تاريخ انشائه إلى 608 / 1211 أو مسجد قايتباى الذى انشأه السلطان المملوكى الأشرف قايتباى ضمن مجموعة هائلة من المبانى تشمل مدرسة وضريح وسبيلى كتاب وبوابة وربع وحوض ومقعد ومبانى خدمية ــ تنطبع بمخيلته صور زخارف غنية وفراغات رشيقة وواجهات مهيبة. ولا ريب أن هناك ضرورة للحفاظ على هذه الآثار لما لها من قيمة تاريخية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية وروحانية. لكن ماذا عما يوجد حول هذه الآثار؟ هل له قيمة أو معنى يتعدى كونه جبانات مدفون بها نسبة لا بأس بها من عائلات القاهرة؟ 
هناك مظهران تختص بهما مدافن القاهرة؛ وجود أحواش ذات استراحات بها جميع سبل المعيشة ووجود سكان دائمين يسكنون هذه الاستراحات وآخرين يسكنون العمارات الكائنة بتجمعات سكنية داخل المقابر. ويستاء الكثيرون من هذه الظاهرة فيرددون عبارات فوقية مفادها أن هؤلاء السكان يشوهون قدسية المقابر ويشوهون وجه مصر الحضارى... إلخ. 
هذا عن طبيعة الجبانات العمرانية وما بها من آثار وأضرحة وأحواش وسكان وأسواق. ماذا عن موقعها وهو موقع متميز يمتد بين مدينة نصر شرقا وشارع صلاح سالم غربا وشمالا وبين البساتين جنوبا؟ إذا عقدنا مقارنة بين القيمة التذكارية الشخصية لهذه الأرض وبين قيمتها الاقتصادية كأراض واقعة بقلب القاهرة يمكن إعادة تعميرها لأغراض سكنية أو تجارية أو سياحية أو كمراكز مال وأعمال أى كفة سترجح؟ إذا جاءنا مستثمر يعرض الإبقاء على الآثار والأضرحة الشهيرة وبناء جبانات ومساكن بديلة بالصحراء واستبدال المدافن بالأبراج والفنادق والمحال هل نوافق بدعوى أن الحيّ أبقى من الميت؟ خاصة وأن هذا سيخلصنا من ظاهرة سكنى المقابر – والتى يراها الكثير ظاهرة غير آدمية وغير حضارية؟ 
***
الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة كما قد يبدو من أول وهلة. فهناك عدد من النقاط المطلوب توضيحها:

1. حدود القاهرة كموقع تراث عالمى قامت منظمة اليونسكو بتسجيله عام 1979 تشمل الجبانات التاريخية بمجملها وليس فقط المبانى المسجلة كآثار من قبل وزارة الآثار – أى أن التسجيل ليس فقط لأهمية المبانى الأثرية لكن بالأساس لكونها مدينة تاريخية ذات نسيج عمرانى تاريخى يشكل مسرحا لنشاطات حياتية يومية تمتد بجذورها فى الماضى. ومن أهم هذه النشاطات العادات والتقاليد والطقوس المرتبطة بالمعتقدات والتى تشكل تراثا غير ملموس يمارسه المصريون بصورة يومية بشوارع القاهرة وساحاتها خاصة بالأماكن الروحانية بالمقابر، حيث البركة النابعة ليس فقط من الأضرحة الشهيرة بل من جميع قبور المسلمين، خاصة أعلام التاريخ الإسلامى. فنحن نعرف مثلا أن المؤرخ تقى الدين المقريزى مدفون بمقابر الصوفية خارج باب النصر وأن عبدالرحمن الجبرتى الذى أرخ لفترة الحملة الفرنسية على مصر مدفون بالمجاورين. وبكتب الزيارة التى كتبها أمثال ابن عثمان وابن الناسخ وابن الزيات والسخاوى بالعصرين الأيوبى والمملوكى ذكر لآلاف القبور العطرة للأولياء وآل البيت اندثرت آثارها – على الأقل التى فوق الأرض ــ فهل نملك أن نضحى ببركة هذه القبور من أجل حفنة نقود؟ 

2. ظاهرة سكنى المقابر ليست وليدة العصر الحديث كما يروج الكثيرون. هى ظاهرة قديمة يرجع تاريخها للعصر العباسى على الأقل. حيث كشفت حفائر أجرتها البعثة الفرنسية بمنطقة اسطبل عنتر عن أحواش بها سبل المعيشة من هذا العصر. كما يحكى لنا السخاوى أن الفاطميين اتخذوا بالقرافة مساكن منها القصر ذو المنظرة الذى شيدته تغريد أم الخليفة العزيز بالله وبجواره حمام وبئر وبستان أضاف اليه الخليفة الآمر مصطبة للصوفية. وبذكر التراث غير الملموس وكيف أننا فى مصر نغزله بطريقة عفوية فى نسيج حياتنا اليومية، فإن كلمة (القرافة) التى نستخدمها ليومنا هى الاسم الأصلى لجبانات القاهرة ويقال إنها نسبة لقبيلة بنى قرافة التى استوطنت أرضا بالقطاع الشرقى للفسطاط عاصمة مصر الأولى وسميت منطقة المدافن التى نشأت بينها وبين المقطم نسبة اليها. ونجد بين ما شيده الفاطميون والأيوبيون بالقرافة العديد من الفراغات السكنية بمؤسسات دينية مثل الخنقاوات والأربطة والتكايا والمدارس كما أسسوا أوقافا خيرية للصرف على هذه الموسسات والقائمين عليها والدارسين بها. أى أن القرافة كانت جزءا لا يتجزأ من تاريخ تطور المدرسة المصرية فى علوم الفقه والحديث والتفسير الإسلامية وأن جزءا من أوائل قاطنى القرافة هم شيوخ وطلبة المدارس ومريدو الخانقاوات. فنجد مثلا أن لقب القرافى من الألقاب الشهيرة لعدد من شيوخ هذه العصور. إذن ما نراه الآن هو تطور حديث لظاهرة قديمة تدهور بها الحال بسبب سوء إدارة الأوقاف وتوقف نشاطات التعليم الدينى وانتقاله إلى مدارس ومعاهد الأزهر ونضوب سبل العيش الكريم مما اضطر الكثير من عائلات القرافة إلى النزوح مع تحول بعض العائلات إلى تُربِية وقرّاء.
***

3. للقرافة تاريخ طويل فى استقبال السياحة الدينية والثقافية. فكان لكل شيخ من شيوخ الزيارة يوم أسبوعى لنزول القرافة بصحبة تابعيه لزيارة معالمها والترحم على أمواتها. كما يحكى رحالة عرب شهيرون عن القرافة بدهشة واعجاب فيقول ابن بطوطة مثلا: (ولمصر القرافة العظيمة الشأن فى التبرك بها. وقد جاء فى فضلها أثر أخرجه القرطبى وغيره، لأنها من جملة الجبل المقطم الذى وعد الله أن يكون روضة من رياض الجنة. وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور، ويبنون بها البيوت، ويرتبون القراء يقرأون ليلا ونهارا بالأصوات الحسان. ومنهم من يبنى الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم، ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل). كما اشتملت جميع كتب السياحة من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على وصف مفصل للجبانات تذكر فى إعجاب لا ازدراء هذا الخليط العجيب من الحياة والموت، داعية جميع السياح لزيارتها. أما الآن فنجد أن السياح يمنعون من زيارة هذه الأماكن فرادى وهناك تضييقات أمنية على زيارة الوفود وذلك بدعوى أنها غير آمنة أو أنها لا تمثل «وجه مصر الحضارى». وبذلك نفقد العملة الصعبة ونقوم بأيدينا بطمس تراثنا والتقليل من شأنه. 
4. وهذا يقودنا إلى النقطة الأخيرة وهى نقطة التراث كمورد اقتصادى وثقافى واجتماعى وروحانى لا غنى لنا عنه. وهناك متخصصون فى اقتصاد التراث يضعون تقييما لمواقع التراث العالمى وهو تقييم لا يستطيع أى مول أو مبنى ادارى أو سياحى أن يصل لمستواه لأنه يأخذ بالازدياد مع عامل الزمن ــ أما الموارد المعاصرة فقيمتها تقل كلما ازدادت قدما إلا ما أثبت جدارة وأصبح فى مصاف الأثر مع الوقت. ويجب أن نكرر هنا أن التراث ليس مبنى يقف وحيدا مهجورا دون استخدام ودون معنى. التراث فى المدن التاريخية الحية عبارة عن وحدة متكاملة من الماضى والحاضر – من الذكريات والنشاطات اليومية – من المبانى والشوارع والساحات – من الحيّ والميت وليس هناك أقوى من قرافة القاهرة الفريدة من نوعها مثالا على هذا النوع الغنى المعقد من الإرث الإنسانى. 
***
وماذا عن سكان المقابر؟ نتعامل معهم مثلما نتعامل مع سكان جميع المناطق التاريخية وغير التاريخية المفتقدة للخدمات ودواعى العيش الكريم. فنحسن الخدمات لسكان الأحواش من التُربِية ومساعديهم وكذلك لسكان العمارات غير المخالفة ــ وجميعهم قاطنون بصفة قانونية ــ وندرس أحوال السكان والمبانى المخالفة فى اطار المنظومة الاجتماعية والاقتصادية بطريقة متكاملة تأخذ فى الاعتبار سبل العيش ومدى الارتباط الاقتصادى والاجتماعى بالمكان وكذلك مع الاعتراف بالحق القانونى والتاريخى للكثير منهم فى السكن فى هذه المنطقة إن اختاروا. أما عن المولات والفنادق والمراكز التجارية والإدارية فأرض القرافة أغنى وأطهر وأرقى من ذلك وبالقاهرة القديمة والجديدة والمستقبلية أراضٍ كثيرة أكثر ملاءمة لهذه النشاطات. 

وأعلم أن قبور الصالحين لا تخلو من بركة وأن زائرها والمسلم على أهلها القارئ عندها والداعى لمن فيها لا ينقلب إلا بخير ولا يرجع إلا بأجر وقد يجد لذلك أمارة تبدو له أو بشارة تنكشف له.
مىّ الإبراشى رئيس مجلس إدارة جمعية الفكر العمرانى ومنسق مبادرة الاثر لنا
التعليقات