ما لا تراه لكن تعرفه - مىّ الإبراشى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 5:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما لا تراه لكن تعرفه

نشر فى : الأحد 12 نوفمبر 2017 - 11:20 ص | آخر تحديث : الأحد 12 نوفمبر 2017 - 11:20 ص

يحكى أن الرحالة الإيطالى ماركو بولو جلس مع خان الصين يروى له عن أعجب ما زار من المدن. فحكى عن «مدن رفيعة» و«مدن ممتدة» و«مدن مختفية». وبعد خمس وخمسين حكاية عن خمس وخمسين مدينة اكتشف الخان أن جميع هذه المدن ما هى إلا مدينة البندقية مسقط رأس ماركو بولو.

(مدن لا مرئية) رواية كتبها الكاتب الإيطالى إيتالو كالفينو بأسلوب شاعرى وحقيقى فى ذات الوقت.. نجح من خلاله أن يصف المدينة كما لم يصفها غيره. فخان الصين وماركو بولو لم يجلسا معاً يلعبان الشطرنج ويتحدثان عن مدن لا مرئية. ومدينة أوكتافيا المعلقة بين هاويتين بخيوط مثل خيوط العنكبوت ومدينة ادليما؛ حيث يرى الزائر سكانها على شكل من مات له من أحباء ومدينة موريانا ذات بوابات الألاباستر وبيوت الكريستال المختبئ خلفها عشش الصفيح وأنقاض المبانى، ومدينة ثكلا التى لن يكتمل بناؤها أبدا، لأنها تحاول محاكاة السماء بنجومها وكواكبها ومجراتها ــ جميعها خيالى وجميعها مدينتى ومسقط رأسى كما هى مدينة كالفينو ومسقط رأسه.

جميعها القاهرة ــ والقاهرة هى حصن بابليون والفسطاط والعسكر والقطائع وقاهرة المعز والقاهرة الاسماعيلية. وربما تصبح أيضا العاصمة الإدارية الجديدة. فهذه البقعة المباركة حيث يتفرع النيل ويلتقى الصعيد بالدلتا ترسم شوارعها تاريخ مصر. فيقف جامع أحمد بن طولون شاهدا على حاكم عظيم استقل بمصر عن الخليفة العباسى وبنى القطائع مدينته الجديدة وابنه المدلل خمارويه الذى قام بحفر بركة ملأها بالزئبق بدل الماء ووضع بها مركبا يبيت به على أمل أن تهدهده حركة الزئبق فينام ويتغلب على الأرق المزمن. وتقف حوارى القاهرة شاهدا على مناورات أهلها مع الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله الذى أبطل صناعة أحذية النساء ليمنعهن من نزول الشارع فقام القاهريون بعمل دمية على شكل امرأة تلوح له فى موكبه وتختفى لحظة أن يراها ويهم لملاحقتها. وضحكت بيوتها على (الحيطة اللى بتتكلم) التى اتخذها الكثيرون مزارا مباركا ثم اكتشفوا أنهم ضحايا عملية نصب لكن سكان القاهرة شجعوا اللعبة الحلوة وخلدوا الحكاية فى مثل (يا سلام سلم الحيطة بتتكلم).

●●●

فمدينة القاهرة والبندقية وبومباى ولندن جميعها مدن كالفينو اللا مرئية. تكشف وتخفى ما بدا لها بمزاجها. تكافئك على صبرك ومثابرتك وعلى معاناتك اليومية معها بلقطة من الجمال العابر أو السحر اللحظى تجرى وراءه فلا تلحقه. فيحكى كالفينو عن هذه المدن ويقول إن (المدن ــ كالأحلام ــ تتكون من الرغبات والمخاوف... قوانينها لا معقوله مناظيرها مخادعة وكل شىء يخفى شيئا آخر).

وهنا تكمن المعضلة ــ لماذا نتكبد كل هذا العناء لمجرد أن نعيش مثل هذه اللحظات العابرة فى مثل هذه المدن المعقدة؟ أليس من الأسهل أن ننجو بجلدنا ونهرب لنعيش فى مكان أسهل وأسلس؟ فالقاهرة والبندقية وبومباى ولندن مدن تتحداك أن تحبها، ومقابل كل قاهرة توجد عشرات التجمعات الحديثة الأليفة. فلم لا ننتقل للعيش فى هذه التجمعات الحديثة حيث الراحة والبساطة؟ لا يوجد ما يمنع ذلك لمن أراد. لكن هناك من يريد أن يثابر، من يتحمل الصعاب من أجل مدينة – والكلام هنا لكالفينو ــ (لذتها ليست فى عجائبها السبع أو السبع والسبعين لكن فى أنها تجيب عن سؤال يدور فى خلدك أنت).

لقد تحدثت فى مقالات سابقة عن الجدوى الاقتصادية والاجتماعية من الحفاظ على المدن القديمة. هذا المقال محاولة للغوص فيما هو أعمق من هذه البديهيات (على الأقل هى بديهيات بالنسبة لى). هو مقال يدعوك لتأمل ما تفعله مدينة مثل مدينة القاهرة بمحاولات استبدالها أو الأخذ من طبيعتها الخاصة. فيحكى أن البارون إمبان – وهو رجل مال وأعمال بلجيكى – أراد بناء مستعمرة جديدة على نسق انعزالى يجمع أبناء الطائفة الدينية الواحدة فى حى واحد. فتجد تصميم مصر الجديدة يفترض أن المسيحيين سيسكنون حول الميادين التى تحوى كنائسهم ــ ميدان تريومف أو سفير مثلا ــ وأن المسلمين سيسكنون منطقة ميدان الجامع. وما إن قام ببناء المبانى ورصف الشوارع أخذتها القاهرة وضربتها فى الخلاط ليسكن من يريد أينما يريد. وقد لا يعرف البعض أن أسوار القاهرة الفاطمية وأبوابها – باب النصر وباب الفتوح وباب زويلة وغيرها – قام الفاطميون ببنائها ليقننوا دخول المصريين للمدينة وليس ليحموا المدينة من الغزو. ففى ذلك الحين كان المصريون يسكنون الفسطاط ويدخلون القاهرة نهارا للعمل بها فقط. ومع مرور الوقت وحدوث الشدد لم يستطع الحكام الصمود بقوانينهم أمام قانون المدينة فدخل أهالى مصر المدينة واتخذوا بيوتها منازل وحولوها إلى (أم البلاد وقرارة فرعون ذى الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلد الأريضة المتناهية فى كثرة العمارة، المتناهية بالحسن والنضارة). هكذا وصفها الرحالة ابن بطوطة عندما زارها فى القرن الرابع عشر الميلادى.

هذا الخليط العجيب من التحديات اليومية مع السحر اللحظى والأسس التى تسمح بالتحول والامتداد دون المساس بالجوهر.. هذه الخلطة السحرية هى خلطة المدينة التاريخية. هى خلطة المدينة التى تحمل بين طياتها عددا لا نهائى من المدن اللا مرئية.

●●●

ولنترك كالفينو ونذهب لمحمود درويش:
(المدن رائحة: عكا رائحة اليود البحرى والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل. وكل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها. وللمنافى رائحة مشتركة هى رائحة الحنين إلى ما عداها... رائحة تتذكر رائحة أخرى. رائحة متقطعة الأنفاس، عاطفيّة تقودك كخارطة سياحية كثيرة الاستعمال إلى رائحة المكان الأول. الرائحة ذاكرةٌ وغروب شمس. والغروب هنا توبيخ الجمال للغريب).

وقد يضحك الكثير من أهالى القاهرة من ربط رائحة القاهرة برائحة المانجو والزنجبيل خاصة فى هذا الوقت من السنة.. تحت بند همّ يبكى وهمّ يضحك. لكن يحضرنى إحساسى بالغربة والبؤس فى أول زيارة لى لمدينة أوروبية (مدينة كارلسروه بألمانيا) منذ أكثر من 25 عاما وإدراكى أن ما أفتقده هو الروائح، أننى لأول مرة فى حياتى أعيش فى مدينة بلا رائحة. أيتها القارئة، أيها القارئ لا تسيئوا فهمى، فأنا لا أريد أن أعيش فى مدينة تخنقنى بروائحها الكريهة لكننى كذلك لا عيشة لى فى مدينة بلا رائحة، أو لون أو طعم.

وننهى الحديث بكالفينو الذى يحكى لنا عن أطلس سحرى يملكه خان الصين به جميع ما شهد وسيشهد العالم من المدن: (كتالوج الأشكال لا ينتهى. فالمدن الجديدة ستولد مدامت أن هناك أشكال لم تجد مدينتها بعد. وعند استنفاد جميع التنويعات ستتفكك الأشكال وتكون هذه بداية النهاية للمدن. ففى الصفحات الأخرى من الأطلس يوجد فيض من الأشكال الشبكية بلا بداية ولا نهاية.. مدن على شكل لوس أنجلوس وكيوتو ــ أوساكا ــ مدن دون شكل).

مىّ الإبراشى رئيس مجلس إدارة جمعية الفكر العمرانى ومنسق مبادرة الاثر لنا
التعليقات