التسامى - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 12:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التسامى

نشر فى : الأحد 29 مارس 2009 - 8:40 م | آخر تحديث : الأحد 29 مارس 2009 - 8:40 م

يعد التسامى لدى فرويد هو الآلية النفسية التى تعتمد عليها العمليات المشتركة فى الإبداع الفنى. ويرى الكاتب الإنجليزى موم أن التسامى هو الميزة الكبرى للكاتب، لأنه عندما يتعسه شىء ويصيبه بالبؤس والشقاء يستطيع أن يضع الأمر كله فى قصة، ويحصل بذلك على قدْر مدهش من الراحة والهدوء.
ويمكننا على سبيل المثال رصد محاولات الشاعر عنترة التسامى على عقدة النقص التى سببها له سواد لونه، حتى إنه قد تحدث عنها فى تسعة عشر موضعا من ديوانه الصغير. وأول القضايا التى ارتبطت لدى الشاعر بسواد لونه هى قضية نسبه، وقد عالجها فى خمسة مواضع، رأى فيها أن ضِعَة نسبه لم تمنعه من أن يكون أفضل من أعدائه، وأن الذين يعيبونه بنسبه فى المساء هم الذين يحتمون به فى الصباح، وأنه ينتسب للسيف والرمح وهو فارسهما المغوار، أو أنه ينتسب لأفعاله التى تحيل سواده بياضا. وقد جاءت الأبيات كلها مصداقا لقول إدلر إن المصاب بعقدة النقص يشعر بأن المجتمع سوف يتجاهله ويقلل من شأنه، ولهذا فإن عليه أن يسبقهم ويريهم مدى أهميته:

ـ ما ســـــاءنى لونى واســـــم زبيبة إن قصَّرت عن همتى أعدائى
ـ ينادونى وخــيل الموت تجــرى محـــلك لا يعــــــــادله محــــــلُ
وقد أمســــوا يعــــيبونى بأمــــــى ولــونى كــلما عـــقدوا وحــــلُّوا
ـ وأنا الأســـــــود والعــــــــبد الذى يقصــد الخـيل إذا النقع ارتفـع
نســــبى ســــيفى ورمحــى وهـما يؤنســـانى كلما اشــــــتد الفــزع
ـ وإن يعيبوا سوادى فهو لى نسبٌ يوم النزالِ إذا ما فاتنى النســبُ
ـ سوادى بياضٌ حين تبدو شمائلى وفعلى على الأنساب يزهو ويفخرُ
وقد أعجب عنترة بالمقابلة بين سواد لونه وبياض أفعاله فكررها فى ثلاثة مواضع أخرى:
ـ تعيرنى العـدى بســـواد جــلدى وبيض خصائلى تمحو السـوادا
ـ وإن كان لونى أسودا فخصائلى بياض ومن كفى يستنزل القطرُ
ـ شـــــبيه اللــيل لونــى غــير أنــى بفعلى من بياض الصبح أسنى

وقد استمرت المقارنة بين سواده وأفعاله الكريمة فى موضعين آخرين ولكن دون المقابلة اللونية بين السواد والبياض، وإن كانت حدة الشعور بالنقص تظهر فيهما بوضوح وفقا لتصنيف إدلر، حيث يقرر الشاعر أنه أمام مشكلة غير مستعد لمواجهتها، مؤكدا قناعته بعدم قدرته على حلها:

ـ لئن أكُ أسودا فالمسك لونى ومــا لســـواد جـــلدى مـــن دواء
ولــكن تبعــد الفحـشـاء عــنى كبعــد الأرض عـن جــو الســــماء
ـ يعـيبون لــونى بالــسـواد وإنما فعالهم بالخبث أسود من جلدى

وقد صرح الشاعر فى موضعين بأن مشكلته الحقيقية تتمثل فى موقف حبيبته عبلة من سواد لونه، وهذا يردنا إلى دائرة التسامى الفرويدى مرة أخرى، حيث يستبدل الإنسان بأهدافه القريبة أهدافا أخرى تمتاز بأنها أرفع قيمة من الناحية الاجتماعية وبأنها غير جنسية:

دعنى أجِدُّ إلى العلياء فى الطلب وأبلغ الغــاية القصــــوى من الرتبِ
لـعـل عــبلة تَضْــحَى وهى راضــــيةٌ على سوادى وتمحو صورة الغضبِ
ألا يا عــبلُ قد عـاينتِ فِعْـلى وبان لك الضلالُ من الرشادِ
وإن أبصرتِ مثلى فاهجرينى ولا يلحقك عـارٌ من سـوادى

وقد ابتدع الشاعر خمس مبررات شعرية لسواده، فهو لون فى العيون، والدر الأبيض يكسوه الصدف الأسود، وهو ثوب حداد على أعدائه الذين يقتلهم، وهو سواد الليل الذى لولاه ما طلع الفجر، وهو اللون الذى يطفئ نار الحرب الحمراء بالنصر على الأعداء، وهذا الابتداع يردنا إلى دائرة التسامى أيضا، حيث يؤكد مصطفى سويف أن التسامى يؤدى إلى إظهار عبقرية وامتياز فى الفن أو فى العلم أو فى غيرهما:

ـ وما وجــــد الأعــادى فىَّ عــيبا فعـــابونى بلــونٍ فـى العـيونِ
ـ وإن يعيبوا سوادا قد كُسِيتُ به فالدر يستره ثوبٌ من الصدفِ
ـ وأنــا المـنيَّــةُ وابــن كـلِّ مـنيّـِةٍ وســواد جــلدى ثــوبُها ورِداها
ـ يعيبون لـونى بالســـواد جـهالة ولولا سوادُ الليل ما طلع الفجرُ
ـ ولـمـا أوقــدوا نـار المـــنايا بأطــرافِ المـثقَّفة العـوالى
طفاها أسودٌ من آل عبسٍ بأبيض صارمٍ حَسِنِ الثقالى
أمَّا فى المرتين الأخيرتين فقد جاء ذكر السواد فى سياق الفخر الصريح:
ـ وإن عابت سوادى فهو فخرى لأنى فــارسٌ مـن نســلِ حــــامِ
ـ ولى قلبٌ أشــــد مـن الرواسى وذكرى مـثل عُرفِ المسكِ نامِ
ـ ما عــــــاب الزمـان عــلىَّ لـونى ولا حــطَّ الســوادُ رَفـيعَ قـدرى
سَمَوْتُ إلى العلا وعََلَوْتُ حتى رأيتُ النجم تحتى وهو يجرى
ـ وقــوما آخــرين ســعوا وعــادوا حـــــيارى مــا رأوا أثــرا لأثــرى

وليس غريبا أن ينتهى الأمر بعنترة فى إطار محاولته التسامى على عقدة نقصه المتمثلة فى سواد لونه إلى الفخر بهذا السواد بعد أن صار شاعرا كبيرا من أصحاب المعلقات وفارسا أكبر، حيث يرى إدلر أن الشعور بالنقص هو السبب الرئيسى فى إحراز التقدم فى أحوال البشر، وأن الحضارة البشرية كلها قد بنيت على الشعور بالنقص، فحتى التقدم العلمى ما هو إلا نتيجة لسعى البشر الدائم لتحسين أحوالهم عن طريق معرفة المزيد عن الكون المحيط بهم وتطوير قدراتهم على التعامل معه. 
 

التعليقات