آكلو الجواسيس - أحمد جمال سعد الدين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آكلو الجواسيس

نشر فى : الثلاثاء 29 أبريل 2014 - 10:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 أبريل 2014 - 10:00 م

كثيراً ما تحمل هوامش الأحداث، والقصص التي تجري فيها، قدرة أعلى تفسير للواقع، المشكلة أننا في العادة نختار تجاهلها، واقصاءها من الرؤية الكاملة، حيث هي بعيدة عن مستوى الإدراك التقليدي، ما تعوّدنا أن نعتبره مهماً، لهذا يتم تجاهل القصص الفرعية، نعتبرها تافهة، ربما مضحكة، واضفاء أهمية على قصص دائرة الضوء، الذي يعمي العيون أحياناً عمّا يجب النظر إليه فعلاً.

هذه مثلاً حكاية لقلق مسكين، قصة شديدة الحزن لو تمعّنا فيها بعناية لنعرف كيف تحدث الأشياء، هذا الطائر بالذات، مرّ بأسوأ، وآخر، مرحلة في حياته، قبل أن يغادر الحياة تماماً في مصر: من المعروف أن الحياة قاسية علينا كلنا، وأن الطبيعة لا ترحم، لكن تعاسة هذا الكائن بالتحديد، هي في كونه بلا أي ذنب، خارج السياق الطبيعي للأمور تماماً، ثم أنه يصبح فجأة طرفاً أساسياً في مشكلة شديدة الغرابة، وسلسلة أحداث بلا أي رابط، تضعه في غير طريقه الأساسي، وتنتهي بنهاية مؤسفة، وغير مفهومة. الطائر يقوم برحلة الهجرة الموسمية لنوعه، من المجر إلى أفريقيا، يحمل على جسمه جهاز تتبّع لأغراض بحثية تتعلّق بمسارات هجرات الطيور، يعني تم اختياره بشكل عشوائي تماماً في بدايات الرحلة بموطنه الأصلي، وتركيب جهاز التتبع، واطلاق سراحه. يبدأ رحلته، وعندما يصل إلى مصر، يتوقف في قرية بقنا، يشتبه فيه مواطن مصري شريف مخلص غيور على بلده، يشك بذكاء خارق في أن الطائر جاسوس، وإن الجهاز الذي هو جهاز تتبع، هو في الحقيقة جهاز تجسس، وينجح في امساكه، وتسليمه لنقطة المركز. تثار ضجّة نتيجة الخبر، نضحك جميعاً على المسخرة، ويتم ادراك فداحة الهطل، ومن ثم اطلاق سراحه وتسليمه لمحمية في أسوان حتى يسترد عافيته، حيث واضح إنه طلع عين أمه، وهناك، بينما يطير في سلام أخيراً في محمية هادئة، يتم اصطياده، وأكله، وينتهي به الحال وجبة في بطون هانئة تشعر بالشبع.

لفترة ظللت أستعيد هذه الحكاية، كم الجنون الذي يفوق الوصف، والمهزلة التي تتصاعد، اللحظة التي يعتقد فيها الواحد أن الأمر قد وصل لذروته، إلا أنه يعود ليسوء درجات، والنهاية العبثية التي يصعب تحديد أي رد فعل عليها، سواء الضحك أو الدهشة، أو حتى الحزن على حدوث ما لم يكن يفترض حدوثه.

** ** ** **

في الذكرى الثالثة لـ25 يناير الأخير، أعلنت الداخلية بفخر أنها قبضت على 1079 ممن اعتبرتهم مثيري الشغب، أشارت العديد من المنظمات الحقوقية إلى أن حالات القبض العشوائي في هذا اليوم، لم يسبق لها مثيل، تم توجيه قائمة التهم التقليدية: مقاومة سلطات، تعدي على الأمن، حيازة أسلحة، اتلاف ممتلكات، التجمهر، قطع الطريق، تكدير السلم العام، الشروع في القتل، إلخ إلخ. بعضهم كان على هامش الأحداث تماماً، طالب يشتري مستلزمات دراسته، أو آخر يشتري هاتفاً محمولاً من شارع عبد العزيز، ادارة الأمور أمنياً في مصر، بالطريقة الحالية، تجعل المساحات الآمنة تضيق حتى كادت أن تتلاشى، كل شيء يمكن أن يحدث في أي وقت.

** ** ** **

قال بؤبؤ العين.. هؤلاء القوم سينقرضون لامحالة.. لأنهم لايفكرون فيما يرون.. بل يرون مايفكرون فيه".

مريد البرغوثي

** ** ** **

"الجنون" كلمة ناقصة للوصف، يبدو أن ما يحدث هو الدفع بمنطق متكامل، ومتماسك الأجزاء في بعض الأحيان، عن الطريقة التي يجب على الناس أن يروا العالم بها، لا يعطي الإعلام فقط معلومات خاطئة، حيث المعلومة الخاطئة يمكن تصحيحها بمعلومات أخرى صحيحة، لكنه كذلك يحدد نمط التفكير المسموح به، والذي يجب استخدامه في هذا الأمر أو ذاك، الهدف هو الدفع بنمط تفكير إذن، وليست معلومات خاطئة فقط. ما يطلق عليه هربرت شيلر بإختزال: "التلاعب بالعقول"، أي ببساطة، تكوين وعيّ زائف، وهي أداة القهر الأهم، كما يسميها "باولو فريري"، والذي يلاحظ بذكاء شديد، أن التلاعب بالجماهير، وتضليلهم، لا يحدث إلا بالتزامن مع ظهور الشعب، أي الأعداد الكبيرة المتجانسة- بدرجة ما بالطبع- من البشر، كإرادة اجتماعية، في مسار العملية التاريخية، أما قبل كذلك، فالقمع المباشر يكفي، دون حاجة إلى تشديد خطاب اعلامي، أو ادراته بطريقة أكثر احترافاً، وفاعلية في التاثير على عقول البشر.

علينا، وخصوصاً في لحظة الهزيمة الصعبة التي نعيشها الآن، أن نعرف أنه لولا قوة الناس، وعِظم تأثيرهم، ما أهتمت السلطة، إلى هذه الدرجة، بالسيطرة على عقولهم.

لحظة مثل لحظة اللقلق، بكل الكوميدية التي تحملها، وكل السخريات، والمساخر، تخفي ورائها جرائم حقيقيّة حدثت في مصر خلال الفترة الماضية، تحديداً منذ لحظة "التفويض"، وتصدير خطاب قومي مترهّل قديم، من ملفّات مكسوّة بالتراب والعفن، في مواجهة خطابات الإسلام السياسي البائسة، وحتى هذه اللحظة التي نعيشها، والتي صاحبها واحدة من أشرس وأنجح الدعايات الإعلامية المضادة في السنوات الأخيرة، معاناة حقيقيّة وقعت على الأطراف الأضعف من المسألة، اللاجئين، وخصوصاً الفلسطينيين، والسوريين، أناس اجبروا على ترك بيوتهم، وعائلات بالكامل تم تشريدها في الشوارع. حادثة اللقلق، بقدر بساطتها، هي نموذج كاشف لقدر الجنون، الذي يمكن أن يصل إليه الناس طالما ملئت عقولهم بمصطلحات تتعلّق بالأمن القومي، وحماية أمن مصر. بيئة أصبحت معادية للأجانب بشكل كامل، ولا يقتصر الحديث هنا عن ممارسات السلطة، والتي امتدت للترحيل العشوائي، والإنتهاكات القانونية والإنسانية، وغيرها، بل عن المجتمع نفسه، الذي قرر مد العداوة لتشمل كل نواحي الحياة الغريبة عنه، ينطبق هذا على الطيور الأجنبية، المثيرة للريبة كذلك.

تمثل مصر بالمناسبة الاختيار الثاني، ربما الثالث للاجيئين، من يأتون هنا هم غير القادرون في الغالب إلى السفر لأوربا، أو الذهاب إلى الأردن أو لبنان، وهذا يعني أنهم أصلاً في ظروف صعبة، وتزداد صعوبة مع كل يوم يقضونه خارج بلادهم.

يتحدث المدوّن الفلسطيني محمود عمر، عمّا حدث له في مصر، واضطراره للمغادرة بعد سلسلة أحداث أظهرت بوضوح أن الأمور ستمضي للأسوأ بالنسبة للاجئين، الأطراف الأضعف في المجتمع بتعبير أدق.

يقول: "لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. قال بعض النشطاء المصريين المعروفون (هُنا يتنقل البؤس والتشويه إلى مستوى "شباب الثورة") إنّ فلسطينيين كانوا يحرسون مقرّ جماعة الإخوان المسلمين في المقطم. ما هي حجّتهم؟ أنّ المسلحين من حرّاس المقر كانوا يطلقون النار، ويصيبون! كيف لمصريّ أن يطلق النار ويصيب؟ ما دام حامل البندقية ماهرًا فلابدّ أن يكون فلسطينيًا، أليس كذلك؟ يُضاف إلى ذلك خطة فلسطينيي غزّة للاستيلاء على سيناء بعد أن "باعوا أرضهم"، ناهيك عن قيام كتائب القسّام بفتح كافة السجون أثناء الثورة، وانقطاع الكهرباء والبنزين في القاهرة علشان "كلّه راح غزّة"."

كيف يرى المصريون الفلسطينيين؟ الفلسطينيّون، يعني غزة، يعني العدو الذي يتربّص بنا في الشرق، يعني حلفاء الإخوان، من يسرقون منا الكهرباء والبنزين، ويكرهوننا بشدة، ويريدون الإستيلاء على سيناء طبعاً، تكرر حكاية (محمود عمر) مع كثير من العائلات السورية، التي تم اجبارها على ترك البيوت، وطردهم من أعمالهم التي يقتاتون عليها. وغيرها من المضايقات في الشوارع، والإحتكاكات اليومية العابرة من مواطنين شرفاء غيورون على أوطانهم، من هم السوريّون؟ هم الخونة الذين رفضوا كرم الضيافة، واستغلّهم الإخوان لزيادة الأعداد في اعتصام رابعة، ولا يجب أن ننسى جهاد النكاح،

وصل الأمر إلى التحريض المباشر علناً من شخص مثل (يوسف الحسيني)، في برنامجه على قناة (أون تي في)، للتعامل مع السوريين دون اللجوء إلى القانون، ثم اعتذار هزيل، عديم الملامح بسبب الغضب الذي ووجه به كلامه.

بالطبع تجدر الإشارة هنا إلى "مؤتمر دعم الجهاد" في سوريا، والذي كان له تأثير مفزع بالمعنى الحرفي للكلمة، على الطريقة التي يتعامل بها المصريون مع السوريين، ومع الغرباء بشكل عام. حيث السوريين الذين حضروا إلى مصر، بدعم من الإخوان، وبالتالي يجب أن يغرقوا مع الإخوان حين يغرقون.

الأفكار العنصرية موجودة في كل مكان، الإنطباعات المسبقة التي يتم تكوينها عن جنسيات بعينها، والأساطير الشعبية التي تُنسج على الصفات السيئة التي يحملها الغير، ليست أمراً مستغرباً في الواقع، وهي على كل حال، جزء من تكوين البشر في كل مكان، الفارق هنا هو العداء بإستخدام الفعل، والتحرّك ناحية التنفيذ، وعدم اقتصار الأمر على الأفكار السخيفة.

من الضروري فعلاً فهم هذا في سياق ما تمت به ادراة الحرب الإعلامية في مصر، منذ الفترة اللي بدأت بتولي مرسي للرئاسة، وحتى اللحظة الراهنة، شبكات المصالح العملاقة التي تشكّلت، وبسرعة شديدة، بكفاءة عالية،لتكوين قنوات تلفزيونية، ومنابر اعلامية والدفع ناحية ضخ رسائل اعلامية ثابتة وشديدة التأثير، وهي شبكات عرّفت نفسها منذ اللحظة الأولى، وبدقة وكفاءة حقيقيّة، كضدٍ للثورة، مع سقوط حسني مبارك المدوّي، واختزلت الثورة في الإخوان، لإعتبارت العدد والتنظيم، ومن ثم، ومع الوقت، اعتمد كثير من متابعيها هذه الرؤية عن أنفسهم. تتزايد صعوبة التأكيد حالياً على الإخوان لم يكونوا الثورة، وأن المطالب التي خرج الناس من أجلها، لا زالت قائمة، وهي لم تكن يوماً مُشكّلة بسبب الإخوان أو غيرهم.

عن طريق هذا فقط، يصبح من الممكن فهم تغيّر السياسات الإعلامية المفاجيء، في جميع هذه القنوات بالتزامن، في التعامل مع قضية بعينها مثل قطع الكهرباء ، فالمشكلة التي اُفسح مجال واسع لنقاشها، والتحدث عنها، وتوضيح الفشل في التعامل معها، خلال الصيف الماضي، أصبحت الآن قضيّة صير واحتمال واجب التحلّي به ريثما نبني الدولة على مهل، حيث أن الأشياء لا تحدث بين يوم وليلة طبعاً.

** ** ** **

تتميّز حكاية اللقلق عن حكايات أحمد سبايدر، وسامح أبو عرايس الماسونية، في كون الخط قد امتد حتى النهاية بالفعل، حتى وإن كانت هذه النهاية تميل إلى عالم الحظ السيء أكثر من الجنون. لطالما اعتبرت نهاية هذه القصة مثيرة للحزن أكثر من أي شيء آخر. كل هذه الأشياء، تحدث لطائر واحد بعينه، وبالصدفة.

بعدها بشهور، أكون في مصلحة حكومية، أسمع بالصدفة حواراً بين اثنين موظفين على مكاتب متباعدة، عن الدول التي تتجسس علينا، والاحتياطات الأمنية التي يجب اتخاذها، وواحد منهم يقول للآخر عن أنهم حتى بدأوا في تجنيد الطيور المهاجرة، أشعر بالأسى، وأقول لهم إنه تم أكله خلاص. يهز الموظف رأسه، ويقولي: "يستاهل". انظر له بتمعّن محاولاً فهم مكمن المرح في الدعابة، لكن وجهه لا يلين، ويبدو منهمكاً في الورق الذي بعثره أمامه على المكتب. ختام مناسب للحكاية.

هوامش:

1 ـ حكاية اللقلق

2 ـ تدوينة محمود عمر:

عن مصر؛ البلد العنصريّ الذي نحبّه

3 ـ مظاليم عابدين

سجناء عابدين.. «متهمون مشفوش حاجة»

التعليقات