أقلّ من فاشية.. أكبر من كارثة - أحمد جمال سعد الدين - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 4:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أقلّ من فاشية.. أكبر من كارثة

نشر فى : الإثنين 30 ديسمبر 2013 - 10:35 م | آخر تحديث : الإثنين 30 ديسمبر 2013 - 10:35 م

(1)

الحكاية بدأت بشائعة: الفريق أول عبد الفتاح السيسي، يصدر قرارًا بحصر عام لأطفال الشوارع، تمهيدًا لإلحاقهم بالكليّات الفنية العسكرية، أخذت الشائعة جولتها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى خرج بعدها الدكتور هاني مهنى، المتحدث الرسمي باسم وزارة التضامن الاجتماعي، ليعلن على الناس أن الخبر غير صحيح، ولا توجد نيّة من أي نوع لأمر كهذا، لكن لم يفته طبعًا أن يؤكد ترحيب الوزارة بـ"الشائعة". واستعداده الكامل للتعاون من الجيش.

محافظ الجيزة، الدكتور علي عبد الرحمن، أبدى اندهاشه من الأمر للحظات، ثم تدارك نفسه سريعًا بالترحيب الواثق باهتمام القوات المسلّحة بأطفال الشوارع، وأكد استعداده بإمداد الجيش بكل التفاصيل اللازمة.

ما يثير الدهشة بخصوص الأمر، ليس الشائعة الغريبة في حد ذاتها، بل رد الفعل الشعبي والحكومي معها بترحاب، والذي يعكس مزاجًا يرحّب بمزيد من التدخّل والسيطرة على مفاصل الدولة بكل أشكالها. وعدم ممانعة عسكرة ما لا يجب عسكرته.

في الواقع الحالي بمصر، يبدو أن الأمر حتى لم يصل إلى مرحلة سيطرة الفرد الواحد، بل على العكس تمامًا، نعيش مرحلة الرغبة في السيطرة دون القدرة على الفعل. النتيجة في هذه الحالة كارثية حرفيًا: غضب شديد، ربما خيبة أمل من "تأخّر النصر"، ورغبة عارمة في إثبات السيطرة وإخضاع الواقع، مما يقود إلى المزيد من انفلات الأمور، ورغبة أشد في إثبات السيطرة، مستمرين في هذه الدائرة الشرسة التي لا تنتهي.

وسط كل هذا يتكشّف أن السلطة ليس لديها ما تقدّمه للناس. أموال الخليج وحدها لم تعد تكفي- حتى لو قامت قناة السي بي سي بنقل شعائر احتفالات اليوم الوطني الإماراتي على الهواء مباشرة- لأنه في نهاية الأمر، يكتشف النظام أن عنده دولة يجب إدارتها، بغض النظر عن أي شيء آخر.

عند لحظة الاكتشاف هذه يحين وقت اكتشاف العدو. في الواقع لا يهم كثيرًا من هو العدو بالتحديد، تستخدم الكلمة غالبًا لحظة الإحالة إلى شيء غامض مبهم لا يعرف تفسيره إلا السلطة وحدها. كيان هلامي مكوّن من خلطة سرّية عظيمة: (أمريكا/ الغرب/ أوروبا/ الاتحاد الأوروبي/ تركيا/ البرازيل/ الكونغو الديمقراطية.. إلخ إلخ)، وكلهم يكرهوننا بشدة، ويريدون لنا الفناء، بالطبع عبر تواصلهم مع عملائهم في الداخل، وهم مجموعة نشطاء حقوق الإنسان والجواسيس والخونة.. الإخوان طبعا ليسوا أعداء، هم الشياطين بأنفسهم.

من المفيد أن نتذكّر أن هذا هو بالضبط ما كان الإخوان يفعلونه حين كانت السلطة بين أيديهم، العدو فقط هو من تغيّر مع ثبات نمط التعامل، وبدلاً من الإخوان وحلفائهم في الوقت الحالي، فقديما كان مزيجا غامضا هو الآخر من شيء يسمّى (العلمانيون/ الملحدون/ الشباب الرقيع المنحل.. إلخ إلخ).

(2)

لا يعد ما يحدث في مصر حتى الآن فاشية بالمعنى الأكاديمي للتعريف، لكنه بالتأكيد يحمل ظلالاً من الأمر. في الفاشية الأصيلة لا يوجد تصوّر للحياة إلا على شكل صراع مع هذا الآخر. في الواقع لم يطرح النظام الحالي في مصر أي محاولة لإدارة الدولة إلا عبر استخدام النفي. وهي وسيلة تثبت جدواها مع شعوب لم تعتد الحركة وحدها بعد.

صراع الحياة هذا يعتمد إذن على مواجهة الآخر بشكل مستمر وواضح، حيث يجب أن يُهزم الأعداء بشكل قاطع وصريح، ذلك طبعًا سيتم في معركة نهائية يسود بعدها السلام الكونيّ. كانت رابعة حين وقعت مجزرة رابعة، وتتكرر الآن المطالبة بتكرارها مصحوبة بأمنيات عذبة طيّبة رقيقة: "أحرقوهم جميعًا".

واحد من أهم ملامح بؤس تجربة الإخوان المسلمين في مصر، هي أنها لم تقدم أي محاولة لإدارة الدولة على الإطلاق. وهو ما ينطبق على النظام الحالي تمامًا. يعتمد كل منهما على انتظار لحظة السلام الكوني النهائي التي سيتم فيها كل شيء حسن بعد الانتصار على الأعداء، والأوقات التي سنقضيها في الانتظار، نملؤها بالاستغفار، لأنه على ما يبدو لن يحدث تغيير حقيقي في ملفات الاقتصاد والصحة وحتى الأمن، لأن ما يحدث في الشوارع بالمناسبة ليس من قبيل "إحكام السيطرة الأمنية".

تتأسس الفاشية عادة على نظرة للشعب باعتباره كيانا موحّدا يعبّر عن إرادة مشتركة، وهو لا يحتوي على أي تناقضات أو اختلافات. كل الناس يريدون التخلّص من الإخوان، وكل الشعب يعاني من مخاطر إرهابهم، وبالتالي تنحصر الثنائية في الشعب (إنتوا مش عارفين إنكوا نور عينينا ولا إيه؟)، وأعداء الشعب الإرهابيين الذين يجري التخلّص منهم على قدم وساق. تضييق الخناق عليهم تمامًا وإغلاق المجال السياسي أصلاً، ثم انتظار رد الفعل لإعادة استثماره من جديد في دائرة شرسة أخرى.

(3)

بدأت خدمة الإنترنت في مصر في بدايات عام 1992، ووصلت ذروتها بعد عشر سنوات، في عام 2002، بعد أن بدأت الحكومة المصريّة وقتها في مبادرة تبنتها وزارة الاتصالات، لتقديم خدمة الإنترنت بتكلفة المكالمة العادية، متيحة الفرصة أمام نسبة حقيقية من أبناء الطبقة الوسطى للتواصل مع العالم، ومع بعضهم البعض، المدوّنات، المنتديات، ثم الفيس بوك طبعًا.

مع بدايات عصر التكنولوجيا والقفزة العلمية العملاقة في مختلف المجالات في بدايات القرن، كانت الفكرة التقليدية في التعامل مع التكنولوجيا بكافة أشكالها ترى أن أي أداة تكنولوجية هي أداة محايدة بالضرورة. لا يمكن إصدار أحكام بشأنها، وأننا فقط نملك أن نحكم على ما نفعله بها لا أكثر.

في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بدأت تتبلور نظرة جديدة مختلفة في طريقة التعامل مع الأدوات التكنولوجية في حد ذاتها. وهي ترى أن الأدوات هي في ذاتها تنضوي على رسالة ما، وأنها ليست مجرد أداة محايدة، بل هي-على العكس- تحدد كذلك مضمون الفكرة التي تنتقل من خلالها. ربما يتم هذا ببطء على مدار عقود، أو بسرعة شديدة خلال فترة بسيطة، لكن التغيير محتّم في نهاية الأمر.

(4)

يوم الأربعاء الماضي، داهمت قوات الأمن "سايبر" إنترنت في أسيوط. وصلت القوات الأمنية بعد بلاغ من صاحب المكان بوجود ثلاثة من الموجودين تحمل صورهم الشخصية على الفيس بوك علامة رابعة. طلب الضابط من كل منهم فتح حسابه الشخصي، ورأى بنفسه الصورة، ثم اصطحبهم إلى قسم الشرطة الأقرب للمكان.

حدث هذا بعد يوم واحد فقط من إعلان السيد اللواء أسامة الشرابي، أن عقوبة وضع شعار رابعة على الفيس بوك، هو السجن لخمس سنوات، ثم نفي "الشائعة" مباشرة بعدها بعدة ساعات!

(5)

تتردد دائمًا عبارة أن عالم الفيس بوك، هو عالم مختلف تمامًا عن الشارع، في الغالب بنبرة تأنيب على عدم الاهتمام بالحركة، على حساب قضاء الوقت في الكلام والشجار العبثي على الفيس بوك، وهذا حقيقي بدرجة كبيرة. يجب علينا منذ البداية أن ننتبه أن (الفيس بوك) هو- بالفعل وحرفيًا- عالم آخر، ربما يكون افتراضيًا، لكن هذا لا ينفي تأثيره. أي شيء نحمله معنا ونفكّر فيه، هو شيء مؤثّر علينا، بغض النظر عن حقيقته من عدمها. لكل منّا حياته المزدوجة الآن، وعلينا أن نتقبّل هذه الحقيقة، وأن نتعامل مع تقاطع العالمين بتواضع العارفين وفهمهم.

من الصعب العثور على إحصائيات دقيقة، لكن أقربها للصواب يؤكد أن في الوقت الحالي، أي إنسان يقع عمره بين عمري الخامسة عشر (وربما أقل)، وبين منتصف الأربعينات، يملك حسابًا على الفيس بوك، ويتعامل مع الموقع، سواء عن طريق الهاتف أو أجهزة الكمبيوتر.

عالم الإنترنت ليس ضعيفًا على الإطلاق كما يتم تصويره أو السخرية منه علنًا طيلة الوقت ممثلاً في "شباب الفيس بوك". علينا ألا ننسى رمزية نزول أعداد حقيقيّة إلى الشارع ليروا بأنفسهم ما يحدث، بالتزامن مع قطع الاتصالات عن كامل أنحاء مصر، أو الشهادات التي تبدأ كلها بأن فلان الفلاني كان يجلس في أمان الله يتصفح الفيس بوك بملل عندما قرر النزول لأنه رأى ما رآه من اشتباكات وطرق عنيفة في التعامل مع التظاهرات، لا يجب أن يتم تجاهل كل هذه الإشارات وتبنّي صورة نمطية ليست لها جذور حقيقية.

يبدو المزاج العام في هذا العالم غير قابل أصلاً للسيطرة عليه من قبل أي سلطة أو غيرها. هذه المجموعة التي غالبًا ليس لها انتماء سياسي معيّن وثابت، بل متقلّب ومتشظٍ، ليست قادرة بالطبع على أي سيطرة من أي نوع، لكنها تستطيع منع أي محاولة للسيطرة الكاملة أو لترسيخ نظام شمولي ممتد. من المهم القول إن هدف هذا الكلام ليس التمجيد بطرق شعبوية للتعبير عن الرأي، حيث إن هذه الطرق من التعبير شديدة الخطورة، وقد تتحول إلى خطر حقيقي في نهاية المطاف، ووسيلة سهلة لنشر شائعات ورسائل خطاب مضادة، وإن كان من الصعب أن تكون هذه الطرق (شعبوية) بالمعنى المتعارف عليه، حيث إن بنية وسائل الاتصال الإلكتروني الحالية، تمنع بقدر كبير أن تتحكم مجموعة واحدة في سير الأمور وتوجيه الدفة. نظرة بسيطة على كم صفحات مجتمعات الـ(الساركازم)، والأعداد المهولة المشتركة والمتفاعلة يوميًا فيها، والتي تستخدم لغة تم تطويرها من مختلف المنابع، وتمتلئ بالمصطلحات غير المفهومة لأي ممن ينتمي لخارج هذا العالم، نظرة على الأفكار التي يتم تبادلها كانعكاس لما يحدث في الشارع، وإعادة إنتاجه بطرق مختلفة تمامًا، تقول إن المزاج العام لم يعد كما هو.

هذا العالم بالتأكيد ليس قادرًا بعد على تأسيس إرادة ما، بفرض وجودها، لكنه مازال قادرًا على استخدام السخرية في تفريغ أي سلطوية حالية من مضمونها الأساسي، من الصعب أن تتشكّل فاشية حقيقية وسط عالم يسخر من كل شيء، حتى من نفسه، تكلفة القمع لم تعد تتناسب مع نتائجه المرتقبة، حتى من الناحية النفعية البحتة، هذه النظرة تقول إن هنالك ما يحدث، وإن المسألة مسألة وقت.. في النهاية حوائط المدينة تشهد على أصوات يصعب إسكاتها.

التعليقات