عندما يختفى الخصم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يختفى الخصم

نشر فى : الخميس 29 يونيو 2017 - 10:00 ص | آخر تحديث : السبت 1 يوليه 2017 - 2:12 م
فى حياة كل منا خصم يختلف معه؛ فهناك الخصومة التى تتولد عن أكل الحقوق بالباطل وهى أشد أنواع الخصومات وطأة لأن الشعور بالظلم شعور قاس ويدوم، وهناك الخصومة التى تنجم عن المنافسة فى الدراسة والعمل وهى ظاهرة صحية فما لم تقترن بالكيد فإنها تدفع للأمام، وهناك الخصومة التى يخلقها الاختلاف عندما يتمكن من شخص إحساس كاذب بأن لونه هو الأصفى ولغته هى الأرقى ودينه هو الأصوب فينظر لكل مختلف معه باعتباره خصما. وكما تختلف مصادر الخصومة تختلف أيضا طرق التعامل معها فهناك تعامل بشرف وهناك تعامل على الطريقة الميكيافيلية حيث تبرر الغاية الوسيلة. إن أنت بحثت فى لسان العرب عن معنى الخصومة ستجد تعريفها يقترن بالمجادلة لكن فى أحيان كثيرة تستخدم الخصومة كناية عن العداء، وفِى القرآن الكريم إشارة للمعنيين معا: معنى اللجاجة فى المجادلة ومعنى العداء الصريح.
• • • 
كان صاحبنا من ذلك النوع النادر من البشر الذى يقل الاختلاف معه وحوله فهو لا يصطدم ولا يتعارك، تعطيه ظهرك وأنت مستريح وتعهد له بمسئولية وتثق أنه لها، دموعه صادقة وحزنه أيضا وإن شئت القول فإن مشاعره على الجملة صادقة رغم أنه من الصعب جدا التعميم فى وصف المشاعر، لا يُنافِس ولا يُنَافس إنما يسير فى حارته التى حددتها له الأقدار ويترك للآخرين حاراتهم. لكن امرؤا واحدا صالحا ليس كافيا لإشاعة الخير خاصة إن وضعت الحياة فى طريقه شخصا يختلف معه فى كل شىء.. شخص يعيش فى الدنيا كأنه لن يموت أبدا، شرس لا يلين ونَهِم لا يقنع وملتوٍ كما تتلوى الأفاعى، هكذا فُرِضَ على صاحبنا القتال وهو كره له وعرف الخصومة وما كانت تسره تلك المعرفة لكنها مع ذلك ظلت خصومة الشخص الواحد والطبع الواحد. 
• • • 
تفتح وعى صاحبنا على شكوى الأب المتكررة من قريبه فلان الذى أخذ يقضم نصيبه من الأرض قطعة قطعة بجرأة لا تُبارى، كان يقول إن قريبه يأخذ حق ابنه وإنه يشعر بالقهر لأنه لا يستطيع أن يلبى رغبات الصغير رغم أنه يمتلك عشرة أفدنة من أجود أراضى الدلتا فيشعر الفتى بأن قضية الأرض المسلوبة أصبحت قضيته الخاصة، وأن قريبهم اللص مسئول عن حرمانه من المصيف ومن الدراجة الفاخرة ومن كل الأشياء الجميلة التى كان يهفو لها. وعندما كبر أكثر سأل الفتى والده لماذا السكوت على قريبهم وهم أصحاب حق فكأنه ضغط على جرح الأب بقسوة، قال له الأب إنه جرب كل شىء من أول طلب الوساطة من عقلاء العائلة وحتى اللجوء للقضاء لكن شيئا لم يردع هذا القريب فهو يقسم أيمانا باطلة ويدبج الشهادات المزورة ويشترى الذمم والضمائر. ومع أن وقع الخصومة بدا غريبا على الفتى الصغير إلا أنها فرضت نفسها عليه فرضا، وكان اليوم الأقسى عليه عندما استيقظ من نومه فإذا أبوه يبكى فى جنح الظلام فسالت دموع الأب دماء بين ضلوع الصغير وكأنه ينزف. وعندما وافت والده المنية وقد صار الفتى شابا يافعا ورث من أبيه الصبر والحكمة ودماثة الخلق وأيضا خصومة القريب إياه. 
• • • 
استقرت هذه الخصومة فى أعماق صاحبنا فتعايش معها ك توأمها، لم تعد تستمد هذه الخصومة مبررها من الحرمان من المتع البسيطة كما كان الأمر فى الماضى لكنها تغذت على ذكرى الأب المقهور وهو يبكى كمدا. حل محل أبيه فى توكيل محامى الأسرة واعتبر القضية هى قضية عمره، وفِى المرات القليلة التى كان يتعذر عليه حضور جلسات المحكمة كان يشعر بالتقصير ويتراءى له وجه أبيه كأنه يعاتبه دون كلام فيقسم أنه لن يكرر فعلته أبدا ويحاول ألا يحنث. هكذا ظل هذا الخط فى حياته قاطعا لكل الخطوط الأخرى والعلاقات... يتزوج وينجب ويعمل وينتقل من عمل لآخر وقريبه هو خصمه الوحيد، وكلما تفتق ذهن هذا الأخير عن حيلة جهنمية للمراوغة والمناورة والتسويف كان يزيد فى تصميم صاحبنا على الاستمرار والمقاومة. 
• • • 
أما اليوم.. ماذا حدث اليوم؟ مات القريب اللص... أزمة قلبية أنهت حياته التى عاشها بالطول والعرض وتمدد فى مساحات الآخرين وفضاءاتهم. كان الظن أن هذا الخبر يزيل عن كاهل صاحبنا عبئا ثقيلا حمله مضطرا لكنه اكتشف أن القريب إياه كان يشغل مكانا معتبرا من ساعات يومه فهو يتسقط أخباره ويتحسب لمكره ويخطط لهزيمته، يتكلم عنه كثيرا حتى لتتبرم زوجته قائلة: هو احنا مالناش سيرة غير فلان؟ فيراعى ذلك لفترة ثم يعود. وعندما رحل القريب إياه أحس صاحبنا بفراغ كبير.. غدا سيصحو ولن يكون هذا القريب مادة للحديث.. غدا يصلى الصلوات الخمس دون أن يدعو ربه بأن ينتصر له ممن غلبه.. غدا يبحث مع محاميه خيارات جديدة وربما يسقط الدعوى فامتداد الخصومة لسنوات أنساه أن له حقا مسلوبا وكل ما صار يرجوه أن يلقى هذا القريب جزاءه، وها قد اختفى الخصم من حياته فماذا بعد؟ ألقى بنفسه على المقعد حائرا لا يدرى ماذا يفعل... هل قال ماذا يفعل؟ نعم قالها... اكتشف أن قريبه الخصم أخذ من وقته أكثر مما ينبغى حتى إذا اختفى هذا القريب أصيب تفكيره بالشلل.. كان الأولى به أن يشعر بالراحة بعد اللهاث الطويل وأن يسترد نفسه من تلك المشاعر الدخيلة عليها، فما باله الآن يصطنع مشكلة ويحارب طواحين الهواء؟ من اليوم سيجد وقتا أطول يثرثر فيه مع امرأته فيما تحب ويلاعب ابنه بتركيز كامل وليس بنصف عقل كما كان يحدث من قبل، سيعود متسامحا كما كان لا يُنَافِس ولا يُنَافَس، تبددت حيرته ووّلدت ابتسامة... اتسعت ابتسامته.. اتسعت جدا.. تحولت لقهقهة وكان قد كف عن القهقهة منذ سنين.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات