القاهرة: مدينتى وثورتنا (١٤) - أهداف سويف - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة: مدينتى وثورتنا (١٤)

نشر فى : الخميس 30 أبريل 2015 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 30 أبريل 2015 - 9:25 ص

الموجة الأولى

انقطاع مؤقت (أكتوبر ٢٠١١)

أصِل الميدان عند انتهاء صلاة الجمعة. ألحق بصلاة الغائب، لكن الصلاة اليوم تبدو مختلفة. لا أعرف كيف أصف هذا بالضبط لكنه شعور بأن ما يحدث طقس عملى وظيفى غير الصلاة الرومانسية الروحانية التى اعتدناها فى الميدان. أدخل التحرير من شارع محمد محمود. أمر بجانب «بينوز» لكنى أختار أن أقذف بنفسى إلى الميدان. هذا بيتى ولا أحتاج لمن يحمينى وأنا فيه.

الزحام ليس كأى زحام خبرته من قبل. فى أكثر أيام الميدان ازدحاما كنا ‪ــ‬ إذا احتاجت سيدة أو فتاة لأن تتحرك فى الزحام ــ نجد ممرا يظهر لها فجأة، يصنعه رجال وشباب متشابكى الأيدى، أو كنا نجد صفوفا منتظمة من الناس تتحرك فنأخذ مكاننا معهم ونسير. أما اليوم، هنا، فالزحام كالتدافع الفظيع على محطة الباص؛ تدافع وتماوج وكل إنسان يحاول أن يتخطى الآخر. الناس من ورائك تحاول أن تدفعك جانبا ليمروا هم. الرجال فى الواقع يحاولون ألا يدفعونى وألا يلمسونى أصلا، ولكن بلا فائدة؛ حبيسة أنا فى تكدس عظيم وراء المنصة حيث يخطب الشيخ صفوت حجازى. هو على المسرح فوقنا وعشرون ميكروفونا ملاصقة لفمه، وهو يهتف فيهم، مرة يهتف «مسلم، مسيحى، إيد واحدة!» والأخرى يهتف «ارفع راسك فوق، إنت مسلم!» الجمع يموج يمينا ويسارا يحاول الخروج من وراء المنصة. الباعة الذين رفعوا نصباتهم وقت الصلاة يحاولون أن يعيدوا نصبها فيدفعوا الناس ويحشرونهم أكثر فى خشب المنصة. رجال على المنصة يقذفون بزجاجات المياة إلى الجموع، يقذفونها بقوة وعلى ارتفاع شديد فأوقن أنها إن جاءتك ستقتلك قبل أن تسقيك، إحداها تمر بجانب أذنى فأصرخ. الشيخ صفوت أيضا يصرخ فى الميكروفون، مثنيا على الجيش وعلى المجلس العسكرى. أرفع عينى فأرى علم المملكة العربية السعودية يطير فى التحرير. موجة من الدفع ترتطم بظهرى فأكاد أفقد توازنى. أتذكر أنى قرأت مرة أنك فى هذه المواقف يجب أن تتوقف عن محاولة المشى، عليك فقط أن تحرص على ألا تقع فتدوس عليك الجموع، «أترك نفسك طافيا وكأنك فى بحر واترك الجمع يحملك ويحركك». أحاول أن أستسلم وأطفو. كنت قد غطيت شعرى بإيشارب كبير وقت الصلاة، وفى كل هذا التجاذب والتدافع وقع الإيشارب وأشعر به ملتفا حول عنقى يخنقنى. الزحام وتلاصق الأجساد يضغط ذراعى إلى جانبى فلا أستطيع أن أرفع يدى لأعيد الإيشارب إلى رأسى أو على الأقل أفكه قليلا من حول عنقى. ذراعى محبوسان إلى جانبى والإيشارب يخنقنى والشيخ صفوت يصرخ فى انتصار محموم أن الإفطار يوم ٥ رمضان، الجمعة المقبل، سيكون فى الميدان: «سوف نفطر فى التحرير! سوف نصلى التراويح فى التحرير!» هو تقريبا يبكى من التأثر: «وقتها سيعرفون من نحن!» أنا حقيقة لا أفهم: أى أرض من أراضى العدو يتصور أنه يحتلها؟ الناس طول عمرها تفطر فى التحرير. الناس طول عمرها تصلى التراويح فى التحرير. جامع عمر مكرم فى قلب التحرير هو المفضل لانطلاق جنازات كبار القوم فى القاهرة. هل يتصور أنه يقود المؤمنين إلى القدس؟ ألاحظ أن الناس لا يستجيبون لصراخه بحماس مماثل ــ والآن وجدته، هذا الاختلاف الذى أستشعره بين هذه الجمعة والجمعات التى مضت: هذه المئات من الألوف الموجودة فى التحرير اليوم هم وكأنهم ــ كأنهم بشكل ما سواح؛ لا أشعر بطاقة تنطلق منهم أو برغبة عندهم فى الوصول إلى هدف معين، يبدو أن ما يريدونه هو فقط أن يكونوا هنا. وهم هنا. أشعر بأجسادهم تدفع وتتدافع لكنى لا أشعر بإرادتهم وبأرواحهم.

عقدة الزحام التى تحتوينى تعْبُر المنصة فأدفع وأتدافع وأستعمل كتفى وكوعى لأخرج منها. أخرج من الميدان وإلى أول شارع التحرير. الزحام لا يزال كثيفا لكن هناك مجال لأن تتحرك بإرادتك. مجموعات من الرجال والعائلات تسرح فى الشارع. الكثير الكثير من الرجال ملتحون ويرتدون الأثواب القصيرة والطواقى. أمشى فى اتجاه باب اللوق، ولأول مرة فى حياتى أمشى فى هذا الشارع وأنسى حتى أن أفكر نظريا فى «شوب» الخروب الذى كنا نأتى له مخصوص فنوقف السيارة ونضرب «كلاكس» فتخرج لنا الأكواب الكبيرة الداكنة ــ أمر على مدخل شارع الأمير قدادار، حيث مسجد عباد الرحمن. مجموعات من الناس أغلبها من الرجال تتمشى فى الشارع تنظر حولها، وكأن هذه هى أول مرة ينزلون وسط البلد، أذَكِر نفسى أن هذه عاصمتهم ــ عاصمتنا كلنا وليست عاصمتى وحدى أنا ومن أشبههم. ظهرى يؤلمنى. أجد عتبة محل مرتفعة فأجلس عليها. وكأنى غريبة عن هذه المدينة. مجموعات من الناس تفترش الأرصفة، ينشرون أوراق الجرائد على الأرض ويضعون عليها الأكل يخرجونه من الأكياس البلاستك. أستمع إلى كلامهم فلا تصلنى كلمة واحدة فى السياسة أو فى شأن عام، كل الكلام عن الفلوس، المشكلات الأسرية، تفاصيل شخصية، قال.. قالت.. أركن ظهرى على زجاج المحل وأملى فقط ألا يخرج صاحبه ويطلب منى الرحيل.

ينقذنى ابنى الأصغر: يحدثنى إسماعيل من لندن. يسأل أين أنا بالضبط؟ وما شكل الدنيا؟ أنقَذَنى. أقوم وأعدل ملابسى وأنفض الغبار عنى وأصف له المشهد فى الهاتف وأنا أسير مبتعدة. هى أيضا بلدهم.

أمشى إلى بيت صديق. يقدم لى الشاى ونجلس فى صمت فى نافذة غرفة مكتبه نحملق فى ميدان عابدين. يأتينى تليفون من الدكتورة نهلة حتة: هل يمكن أن أقابلها فى مكتب الدكتور عمرو حلمى دلوقتى؟

أمشى إلى وزارة الصحة.

يقول الدكتور عمرو إن هناك قرارا اتُخِذ بأن الميدان سيفتح. الاعتصام لازم ينتهى. نقول له إن الشباب يريدون فعلا تعليق الاعتصام، لكنهم لا يستطيعون أن يتركوا أهالى الشهداء، والأهالى أنفسهم وصلوا إلى درجة كبيرة جدا من الإرهاق لكنهم يقولون إن التهديدات ما زالت تصلهم والضغوط تمارس عليهم ليغيروا الشهادات التى أدلو بها، وليتنازلوا عن قضاياهم.

يقول إنه خصص مستشفى العجوزة لاستقبال المصابين، وأنه سيخصص جناحا فيه يكون تحت تصرف أهالى الشهداء. فليعلقوا الاعتصام إذا ويتوجهوا إلى المستشفى ويقيموا فيها بدلاً من التحرير. نقول إنهم لن يتنازلوا عن مطلب احتجاز بعض الضباط، وأن معنا قائمة بأسماء هؤلاء الضباط، وهم ستة ــ يقول المسألة فعلاً جادة: المجلس العسكرى مصر على أن يخلى الميدان. يقول أيضا إنه يبحث عن طبيب ثورى شاب، ليعطيه مسئولية العناية بالمصابين، وأسرهم فى مستشفى العجوزة. أعطيه رقم طبيبة شابة التقيتها فى التحرير فى الليلة السابقة لتنحى مبارك.

الثالثة مساء

سيارة نهلة عابقة برائحة المانجة. هى عادت للتو بحمولة مانجة من مزرعتهم.

يجب أن اذهب إلى جنينة أمى، أستلم المانجة وأتفقد السقف الجديد. يجب أن اذهب قبل أن يبدأ رمضان.

نجلس فى الكافيه ريش فى شارع طلعت حرب بالقرب من الميدان. إن أجلاً أو عاجلاً يمر الجميع على كافيه ريش. على مائدة طويلة فى القاعة الجانبية أرى علاء سويف وأحمد سيف فى اجتماع خاص بمبادرة إعادة هيكلة الداخلية. المستشار أشرف البارودى، مرشح الثورة لمنصب وزير الداخلية، يجلس معهم. التحرير الذى نعرفه انتقل اليوم إلى كافيه ريش. أنا ونهلة فى اجتماع وراء اجتماع مع ناشطين، وأهالى شهداء نناقش شروط تعليق الاعتصام. وهناك اقتراح أيضا بنقل خيام النشطاء الذين يرفضون التعليق إلى الحديقة الصغيرة أمام المجمع مع خيام أهالى الشهداء. نتصور أن هذا سيكرس الاعتصام ويقويه، كما أنه يخلى الصينية ويسمح بفتح الميدان للمرور. وفى النهاية فقد أغلقنا الميدان المركزى لثالث أكبر مدينة فى العالم لمدة ثلاثة أسابيع، وكثيرون يرون أن هذا يكفى، وأن علينا أن نعمل حساب السكان وأصحاب المحلات وأصحاب الأعمال فى المنطقة الذين بدأو فى التذمر. نقل الخيام يجسد تضامن النشطاء مع أهالى الشهداء، ويحتفظ بوجود رمزى فى الميدان، ويبطل النظرية التى بدأت تنتشر وتقول إن اعتصام التحرير هو المسئول عن كل مشاكلنا بدءا من أزمات المرور فى القاهرة وحتى الحال المتدهور للاقتصاد. فى الساعة الرابعة يبدو أننا قد توصلنا إلى اتفاق. نكتب مسودة بيان ويذهب أبومهاب ليعرضه عرضا أخيرا على الأسر. نخطر الإعلام ونهاتف الأصدقاء فى أون تى فى والجزيرة وقناة النيل. تصل الكاميرات والمراسلين، وتوافق إدارة كافيه ريش على أن يقيموا كاميراتهم فى غرفة جانبية وينتظروا. أبومهاب لا يعود. نهاتفه فيقول إن الأسر ما زالت تتناقش.. يمر الوقت.

فى السادسة يلملم الإخوان والسلفيون أشياءهم ويركبون الباصات ويعود التحرير لنا. يضع بعض الشباب القفازات البلاستك ويبدأون فى جمع تلال القمامة المتروكة فى الميدان وشوارعه. الكل يتحرك والكل يعمل. نبحث عن أبو مهاب فنجده فى اعتصام الأهالى بالقرب من المجمع. أنوار الميدان مطفأة والناس تقف فى مجموعات تتجادل فى العتمة. ترتفع الأصوات. أتعثر. الجو حار والدنيا ظلام والأرض خادعة. يظهر المستشار البارودى ويتجمع حوله الناس، يحادثهم ويرجوهم أن يفهموا أهمية الاتحاد وأهمية العمل معا. يستمعون إليه ثم يبدأون فى الجدل من جديد: أصوات قوية تساند التعليق وأصوات قوية تقول إن إغلاق الميدان هو الورقة الوحيدة التى فى أيديهم. أرقب وأسمع. أفهم: الأهالى لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم وإلى شكل عادى للحياة بدون أبنائهم ــ أبنائهم الذين قُتِلوا؛ هم بحاجة لأن يظل شكل حياتهم شكلا استثنائيا. سيدة تقع مغشيا عليها. شاب بعكازات يخبرنى أنه أحد «المصابين»، وأنهم عرضوا عليه عشرة آلاف جنيه، يسأل وماذا يفعل حين تنفذ العشرة آلاف جنيه؟ يقول: «لا أريد مالًا، أريد عملاً». أبومهاب يضع فى يدى ورقة مطوية. مسودة البيان: مرفوضة. أعود إلى المراسلين، الذين تركناهم فى كافيه ريش لأعتذر وأخبرهم: لم نتوصل إلى اتفاق.

التعليقات