العودة إلى قواعد الحساب - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 11:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العودة إلى قواعد الحساب

نشر فى : الخميس 30 أغسطس 2012 - 9:20 ص | آخر تحديث : الخميس 30 أغسطس 2012 - 9:20 ص

فى أول سنوات الدراسة يبدأ تدريس قواعد الحساب لنا، فنجمع أعدادا من البرتقال ثم نقسمها على عدد من الناس، ونتعلم أيضا كيف نطرح ونضرب، وفيما بعد تتطور مادة الحساب إلى رياضيات ورياضيات حديثة، لكن قواعد الجمع والطرح والقسمة والضرب تبقى أساسية لا تفارقنا فيما نقوم به من أنشطة ذهنية، ومن يتأمل فى جوهرها يرى أنها إحدى نقاط البداية الصحيحة للمعرفة، فكيف تعرف نتيجة انتخابات تشريعية دون أن تطرح الأصوات الباطلة من مجموع الأصوات، ثم تجمع ما حصل عليه المرشحون فى جميع اللجان الفرعية، فتصل بذلك إلى النتيجة التى تشير إلى فوز مرشح أو دخوله مرحلة الإعادة، وهكذا. أقول قولى هذا بمناسبة ما لاحظته من استخفاف بالغ بهذه القواعد من نفر من السياسيين الذين لا شك فى أنهم ملمون كل الإلمام بها، لكن تطويع الأرقام لأغراض سياسية يحتاج إلى ابتكار قواعد «سياسية» للحساب، وقد ألفنا هذا بفجاجة فى النظام القديم وكل النظم الديكتاتورية، فالإنتاج الزراعى فى عام2010 زاد عن عام2000 بنسبة 7% مثلا، لكن أحدا لا يقول إنه قل فى عام2010 عن 2009 بنسبة 12%، وأموال التأمينات الاجتماعية المنهوبة تستخدم فى التلاعب بأرقام كثيرة من شأنها إن بقيت على حالها أن تحرج وزارة المالية، أما أصوات الناخبين فلم يكن يعتد بها أصلا، حيث تخرج نتائج الانتخابات بالطريقة التى تحكم قبضة النظام القائم وكفى، وكم كان المرء يتمنى أن يكون فى نظام ثورة يناير قضاء مبرم على هذه الظاهرة الخبيثة، لكن ثمة مؤشرات للأسف على أن القواعد «السياسية» للحساب ما زالت تعيش بيننا.

 

ولنبدأ بموضوع برنامج «المائة يوم». لم يجبر أحد فى حينه المرشح الرئاسى د.محمد مرسى على أن يلتزم بتنفيذ المهام المدرجة فيه فى مائة يوم، والواقع أن النظرة المتعمقة لهذه المهام تكشف للوهلة الأولى عن تعقيدات كبيرة، ومن هنا بدأ المتابعون من خارج «الإخوان المسلمين» يحصون «المائة يوم» واحدا بعد الآخر عقب فوز د.مرسى بكرسى الرئاسة وتسلمه مهام منصبه رسميا فى نهاية يونيو الماضى، وهو ما يعنى أن ستين يوما قد انقضت دون أن تلوح علامات التنفيذ، ومن هنا بدأ إعمال القواعد «السياسية» للحساب من قبل أنصاره بطريقة انطوت على قدر من الطرافة، فمن قائل بأن «المائة يوم» تبدأ من تاريخ تشكيل الحكومة الجديدة، ولم يكن أحد قد أخبرنا بهذا من قبل، إلى قائل إن الانصاف يقضى بأن تحسب «المائة يوم» اعتبارا من استخلاص الرئيس كامل صلاحياته بعد إقالته القائد العام للقوات المسلحة ورئيس أركانه وإعادة تشكيل المجلس العسكرى، وكأن المجلس السابق كان يعوق حل مشكلة المرور مثلا، إلى قائل بأن «المائة يوم» لا تعنى الانتهاء من البرنامج الموعود خلالها وإنما البدء فى تنفيذه، وكأننى أعد دائنا لى بأن أسدد دينى له خلال عام ثم أتى فى الشهر الأخير، وأعطيه قدرا ضئيلا من مبلغ الدين قائلا إن المهم ليس سداد الدين وإنما البدء فيه، لكن أطرف ما قيل فى هذا الصدد إن «المائة يوم» ليست مفهوما زمنيا (!) وهو ما يحتاج إلى من يحيط بعلم الفلسفة وأعماقه كى يمكنه التعليق على هذا الرأى الطريف. وأظن أن الأجدى من هذا كله كان أن يخاطب رئيس الجمهورية أو رجاله الشعب لشرح الصعوبات الموضوعية التى اكتنفت تنفيذ برنامج «المائة يوم» فأدت إلى إرجاء موعد الانتهاء منه، وأعتقد أنه كان من شأن ذلك أن يكسب رئيس الجمهورية احتراما واسعا.

 

مثالنا الثانى يتعلق بكمية محصول القمح فى العام الماضى، فقد صرح المرشد العام لـ«الإخوان المسلمين» فى مرسى مطروح فى كلمة ألقاها على المصلين بعد انتهاء صلاة العيد بأن محصول القمح زاد هذا العام ستة أضعاف عن العام الماضى، وهو ما يؤكد أن «شعب مصر هو شعب طيب، وعندما يصلح نيته لله يزيده خيرا وزرقا»، والمرشد العام ليس من عامة الناس، وإنما هو عالم جليل وأستاذ جامعى مرموق. صحيح أنه غير متخصص فى الإنتاج الزراعى، ولكن تخصصه ليس بعيدا، وهو يعلم بالتأكيد أنه من المستحيل أن تتم زيادة الثروة الحيوانية مثلا إلى ستة أمثالها (وليس أضعافها) فى عام واحد، وقد التقط المتخصصون أنفاسهم وبعدها بدأوا يعلقون على ما ورد فى تصريح المرشد، وأجمعت آراؤهم على أن الزيادة طفيفة (يعنى لم تصل حتى إلى الضعف)، بحيث لم يختلف إنتاج مصر من القمح عن السنوات السابقة إلا قليلا (زادت إنتاجية الفدان من 18 إلى 19 أردبا، أى بنسبة تزيد قليلا على 5%) بدليل ثبات رقم الاستيراد، وهو يصل إلى 10 ملايين طن سنويا، وبقاء الفجوة بين ما تحتاجه مصر وما تنتجه فى حدود 50%، ولو صح كلام المرشد لتحولت مصر إلى دولة مصدرة للقمح، أو لملأت صوامعها بالفائض تحسبا لسنوات عجاف قادمة.

 

 

وقد أرجع الخبراء هذه الزيادة الطفيفة إلى عدد من العوامل منها اتباع أساليب زراعية جديدة واستخدام أصناف ذات إنتاجية عالية، وتحسن حرارة الجو فى فصل الشتاء، فضلا عن إطلاق حملات توعية لدعم إنتاج القمح وتكثيف عملية الإرشاد الزراعى، وقد صرح د.عبدالسلام جمعة رئيس مركز بحوث ودراسات القمح والملقب بأبى القمح المصرى بأن موضوع الستة أضعاف هذا يكون بالمقارنة مع عام 1950 وليس مع السنة الماضية. يتمنى المرء أن تزيد الإنتاجية على النحو الذى صرح به المرشد، ويربأ به فى الوقت نفسه أن يكون قد قصد بتصريحه هذا خداع البسطاء ببركات الحكم الجديد، لكن المشكلة أن المرشد على رأس جماعة يفترض أنها الأقوى فى المشهد السياسى وينتمى إليها رئيس الجمهورية، ومن ثم فإن تصريحا كهذا يثير علامات استفهام مشروعة حول مصادر المعلومات التى يستند إليها المرشد فى توجيه الجماعة بل السياسة المصرية، كما أن المرء يخشى من هذا الأسلوب فى الخطاب أن يتصور بسطاء الناس أن كل المطلوب منهم هو إخلاص النية لله كى تتحسن أوضاعهم، أما العمل وفقا لما يأمرنا به قرآننا الكريم ورسولنا العظيم فقضية أخرى.

 

مثالنا الثالث والأخير من «مليونية» 24 أغسطس التعيسة، وقد كان تشاؤمى منها عاليا، لأنها كانت فى تقديرى خطوة تباعد بيننا وبين «مأسسة» الديمقراطية، فهل سمع أحد يوما عن مظاهرات تطالب بإسقاط الرئيس الأمريكى مثلا؟ الأصل فى الأمور أن يحاسب أى رئيس على أفعاله، فإن أساء فموعدنا الانتخابات التالية، وإن تَزَيَّد فى السوء جرت محاسبته وفق النظام الدستورى والقانونى، أو واجه ضغوطا شعبية هائلة تؤدى إلى استقالته، كما اضطر الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون بعد افتضاح تورطه فى فضيحة «ووترجيت»، وكما أجبر الشعب المصرى نفسه فى ثمانية عشر يوما الرئيس السابق على ترك منصبه، وقد نتظاهر ضد هيمنة «الإخوان» على الدولة وليس على الحكم فحسب، أو ضد علامات مفزعة فى الدستور القادم أو قانون الانتخابات التشريعية الجديد، لكن التظاهر لإسقاط رئيس منتخب لم يكمل مائة يوم فى الحكم أمر يصل إلى حد الهزل. توقعت من ناحية أخرى أن تكون الأعداد المشاركة فى المظاهرات هزيلة بحكم طبيعة بعض الداعين لها، ورفض عديد من القوى الثورية المدنية المشاركة فيها، وتعجبت من سخاء «الأمن الوطنى» فى تقدير أعداد المشاركين بحوالى خمسين ألفا، لكننى رغم هذا كله لم أتوقع أن تكون المظاهرات بهذا الهزال الفاضح، فـ«المليونية» تحولت إلى عشرات قليلة هنا وهناك، أو مئات على أحسن الفروض، بل إنها حققت عكس هدفها، بمعنى أنها أعطت «الإخوان المسلمين» ذريعة قوية للقول بأن هؤلاء هم خصومهم الحقيقيون، مما يعنى التصديق على إطلاق يدهم فى الشأن المصرى. وكم يتمنى المرء أن تكون هذه «المليونية» المهزلة نهاية لابتذال ميدان التحرير ومعنى الثورة، ورغم هذا كله خرج علينا أحد الداعين «للمليونية» بالقول بأنها نجحت بشكل كبير، وأن عدد المشاركين فيها فى ست محافظات بلغ ثلاثة ملايين (يا للهول!)، ونصح الإخوان بارتداء «نظارة» لتحسين حالة البصر لديهم حتى يتمكنوا من رؤية هذه الأعداد، والواقع أن الجميع يحتاج إلى تحسين قوة إبصاره وليس الإخوان وحدهم، كما أن المطلوب هو «ميكروسكوب» وليس «نظارة» بكل تأكيد.

 

متى يعود الجميع إلى قواعد الحساب المجردة، بعيدا عن القواعد «السياسية» للحساب؟ أم أنه قد كتب علينا للأبد أن نعانى من هذا التشويه؟

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية