الكذبة السوداء - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 8:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكذبة السوداء

نشر فى : الخميس 31 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 31 يناير 2013 - 8:00 ص

ذكَّرنى مشهد وهم يتقاطرون على رصيف كوبرى قصر النيل بداية هذا الأسبوع بصورة من أقدم ما تكتنزه ذاكرتى من صور رائقة: شارع مدرسة المنصورة الثانوية صبيحة يوم شتوى مشرق، الدنيا مغسولة بعد مطر دافئ، هواء منعش، وإيقاع طبلة صفيح يشق طريقه متقدما على الرصيف المجاور لسور المدرسة العالى، طابور أولاد واضح أنهم فقراء من أبناء الأحياء الخلفية العميقة وراء عمائر الشارع العريق، حفاة أو شبه حفاة، وفى ثياب مهلهلة، أجسامهم ضامرة ووجوههم مُرقَّشة ببقع سوء التغذية، ومع ذلك تشع ملامحهم المنمنمة بزهوٍ وفرح، وقد كانوا ينتظمون فى طابور تصوروا أنهم فيه ضباط وجنود فى عرض عسكرى، خطوتهم شبه منتظمة، ويتوشحون بشرائط من مزق قماش مُترَّب، تنتهى عند جنوبهم بأجربة ورقية تطفر منها قطع بوص وقوالح، تلك كانت أسلحتهم النارية!

 

هذا المشهد القديم قفز إلى سطح الذاكرة فور أن شاهدت عبر التلفزيون منظرا لمجموعة لا تزيد على عشرين فتى وفتاة واحدة صغيرة ضئيلة، يتقاطرون على رصيف كوبرى قصر النيل، فى ملابس شبابية بسيطة يغلب عليها اللون الأسود، وتغطى وجوههم أقنعة قماشية سوداء يُفترَض أنها تخفى ملامحهم ولاتُظهر غير العينين، لكنها كانت تشى بكل ما ظنوا أنهم يخفونه، خاصة هذا الذى تقدم من الكاميرا مُعرِّفا بكونهم من «الكتلة السوداء»، ثم مضوا فى طابور فردى ظهرت فيه ثيابهم الأميل للتواضع وأعوادهم الأقرب إلى النحافة، فانفطر قلبى عليهم اشفاقا وأسى، فهم فى يقينى لا يمثلون أكثر مما يمثله عرض أطفال الطبلة الصفيح فى ذلك الشتاء البعيد، لكن على العكس من الانطباع الذى تركه طابور الأطفال ذاك، لم يكن طابور فتيان اليوم يوحى إلا بالحزن، فبراءة عمرهم وسذاجتهم السياسية كانت تقدمهم بالمجان فريسة سهلة لوحش لؤمٍ حالك السواد، راح يصرخ متهيئا لابتلاع الفريسة الغضة، فيما يشبه صراخ ديناصورات الأزمنة الغابرة، يدوِّى فى الآفاق السحيقة.

 

«الكتلة السوداء. الكتلة السوداء. الكتلة السوداء»، طنين هائل راحت تطلقه أبواق المُخاتلة لتغطى به فداحة المشهد الأخير كله، وتطفئ به صرخة وطن تعلن أغلبيته عن احتجاجها على سوء إدارة الحكم الحالى وما وصلت إليه البلاد من ترديات لا ينكرها إلا كذوب. لكنه منهج اللؤم الذى لا يقر بأن الاعتراف بالحق فضيلة، مخافة أن يفقد السلطة التى وضح أنها كانت أسمى غاياته، فوق الحق وفوق الصدق، ولو على أنقاض وطن مزقوه، ويمعنون فى تمزيقه، وتعالوا لنتأمل.

 

سُعار من التدليس السياسى والعك الإدارى هاج فى لحم هذه الأمة من حكم متغضِّنى الإخوان فى غضون شهور قليلة، شهور عرَّت قشرة التعاطف الذى نالته جماعة الإخوان من المصريين عبر ثمانين سنة كجماعة مضطهدة، شهور من الاندفاع الأعمى وغير المتبصر بخطورة الجشع فى التمكين والتمادى فى الإقصاء والطمع فى الاحتفاظ بالسلطة أبدا، ودون أى جدارة تبرر ذلك أو حتى تمرره. وعود فارغة انكشف زيفها فى مجالات التنمية الاقتصادية، والتأسيس للديمقراطية، وإشاعة الشفافية، والزهد فى التسلط والسلطان. خطب جوفاء، وحنث بالوعود والعهود، ودستور على الهوى بإخراجٍ ركيك، إعلانات رئاسية لا دستورية للإمساك بزمام سلطة مطلقة، وتحايل للاستحواذ على حق التشريع لمن لا حق له، ونهش لحرية الصحافة والإعلام وتهديد لا يتوقف لأصحاب الرأى المخالف، ثم زرعُ نائب عام بطريقة فجة ومستبيحة لكرامة القضاء والقضاة، حصار مشين للمحكمة الدستورية ومن قبله مدينة الإنتاج الإعلامى. وعنف سوقى فى فك اعتصام بائس حول القصر الرئاسى بميليشيات منحت نفسها حق الضبطية القضائية والتنكيل لانتزاع الاعترافات. إحراق مقر جريدة معارضة، وتهديد بحصار قسم شرطة، وإطاحة بوزير داخلية مهنى ومحترف لأنه رفض إحراق ضباطه وجنوده فى مواجهة الشعب المحتج على فشل فى الحكم لا يخفى على أحد. ثم ماذا؟

 

كان انفجار الغضب العام أو شبه العام متوقعا، وهو لم يكن متوقفا على صيحة جبهة الإنقاذ أو غيرها، فهى جزء من التعبير عن هذا الغضب وليست أبدا مفجِّرة له، بل لعلها كانت مُرجئة ومشذِّبة لغضب أعنف وأفدح كان سيحدث، وأخشى أنه سوف يجىء إن تمادى حكم الإخوان فى نهجه الشائخ الذى ثبت فشله، ولا يمكن جَبْره بتجاوزات مُدانة مثل إحراق مقار الإخوان، وهو سلوك مرفوض حتى لو قيل إن ذلك كان رد فعل للاستباحة العنيفة التى استبق بها الإخوان غيرهم وإن بأشكال أكثر تمويها، كإعادة هيكلة المؤسسات بزرع الموالين لمجرد أنهم أهل ثقة لا أهل خبرة، فقد زاد هذا من تواتر الكوارث كانعكاس لإهدار قيم الإجادة الإدارية والاتقان المهنى. ومع تنامى السُخط العام تفجَّرت موجة غضب جديدة مشوبة بمزيد من العنف، فكيف عالجتها الإدارة الإخوانية؟

 

إنها الآلية ذاتها التى كانت للنظام السابق الذى ثار عليه المصريون وبينهم شباب الإخوان: ادعاء النهج الديمقراطى بدعوات لحوار شكلى يكرر سيرة الحوارات السابقة الفارغة والمراوغة، والتلويح بالضرب بيد من حديد والتهديد بسبابة الوعيد بما هو أكثر، أكثر من ماذا؟ أكثر من رعونة فرض حالة الطوارئ على إقليم كامل من مصر وحظر تجول لقطاع كبير من أبسل المصريين فى مدن القناة العزيزة والمجيدة، بورسعيد، والاسماعيلية، والسويس؟ ودون اعتراف بأية أخطاء، ولا تراجع عن أية خطايا؟ وهاهى مجزرة جديدة يروح ضحيتها خلال يومين خمسين مصريا من القتلى ومئات الجرحى ثمنا لمعالجة خاطئة لإدارةٍ غَشوم، وضعت مؤسسة الشرطة التى لم تكد تلملم شتاتها وتستعيد عافيتها فى مواجهة غضبٍ مُعقَّد جمع الصالح والطالح والمسالمين العزل مع المسلحين الجانحين، دون تأهيل ولا تاهُّب أو إعداد، بل بتجريد من السلاح الشرعى أظنه مريبا ويستهدف القضاء على مؤسسة الشرطة الوطنية لإحلال شرطة عشائرية بمكانها، والأمر يتكرر مع الجيش، لكن هذه المرة كانت مؤسسة الجيش الوطنى أكثر استيعابا للدرس، فرأينا جنودها يلعبون كرة القدم مع أبناء مدن القناة ليلا فيما أطلقت عليه مصر الساخرة: «دورى حظر التجول»!

 

 وبدلا من مبادرة صادقة ينقذ بها حكم الإخوان نفسه من كامل انتهاء رصيده عند معظم المصريين، بمصالحة تقوم على المصارحة والاعتذار الجدى عما ارتُكب من أخطاء وخطايا يمكن أن يغفرها المصريون لو اطمأنوا إلى صدقها، هاهى الجماعة وممثلوها فى الحكم ومشايعوها فى الأركان، تهرب جميعها إلى الأمام، وتحت دخان وضوضاء هياج مصطنع عنوانه «الكتلة السوداء»!

 

ما هذه الكتلة السوداء؟ إنها فى يقينى مجرد محاكاة غلبانة لفتية مصريين يقلدون بها حركة الاحتجاج لدى مجموعات شبابية لا منتمية سياسيا ظهرت فى أوروبا ضد انتشار الأسلحة النووية ونفوذ الشركات الاحتكارية عابرة القارات ثم ضد الطاقة النووية عامة، خاصة فى ألمانيا منذ ثمانينيات القرن العشرين، وتواصلت فى مناهضة العولمة والنفوذ الأمريكى والقمم الاقتصادية فى سياتل وغيرها، وكانوا معارضة ضد عنف حركات النازيين الجدد وحليقى الرءوس من شباب العنصريين البيض فى أوروبا، لكنهم أخذوا يميلون إلى الفوضوية وتحطيم نوافذ وواجهات بنوك ومكاتب ومقاهى الشركات الاحتكارية التى يناهضونها، كما لعبوا دورا فى الدفاع عن المنهوبين فى العالم الثالث، وعن المُهمَّشين فى بلدانهم من ساكنى عشوائيات الضواحى الذين تهددهم السلطات بالطرد والتشريد، ولهم فى ذلك نجاحات، لكن فوضويتهم ثم ارتدائهم للأقنعة السوداء التى تخفى وجوههم لطخت براءة سعيهم بما يبرر العنف فى فض تظاهراتهم واعتصاماتهم السلمية، ودفعتهم فى المقابل لممارسة عنف بلا أسلحة ضد الشرطة مما كرَّس لخصومة مستمرة بينهما. فأين منهم تلك «الكتلة السوداء» المصرية؟

 

لا شىء سوى زى أسود وأقنعة سوداء وأعواد هشة تحمل وعودا بمواجهة العنف بعنف لحماية المتظاهرين السلميين ومساعدة المصابين وإجلاء الضحايا، هذا ما أعلنوه، وأصدقهم وإن كنت أدين حركتهم، لمراهقتهم السياسية وسذاجتهم التى وافرت لضباع اللؤم فرائس سهلة تغذى بها أكاذيبها وتبرر عدوانيتها، بل تتسلل من تحت أقنعة مماثلة لأقنعتهم لتشعل نيرانا تحرق ما تريد إحراقه وتسوِّغ ما لايُستساغ، وهاهى المصائب كلها تنصب على رءوس هؤلاء الصغار المساكين الذين لايزيدون فى ظنى على أطفال عرض الطبلة الصفيح على رصيف ذلك الشارع البعيد فى مدينة قلبى. وما أبشع الافتراس:

 

مجلس شورى مُختلِس لحق التشريع يعقد جلسة عاجلة ليقر عقوبة على هؤلاء المساكين بالحبس عشر سنين كاملة، ونائب عام مطعون فى ولايته يسارع بإصدار قرار بالقبض على كل المنتمين لهذه الكتلة، وشيخ من أشياخ الكراهة يفتى بأن إهدار دمهم واجب شرعى ولا دية لهم ولا إثم على من يقتلهم! ثم يجىء الافتراء الأكبر والأخطر من صناع الفتنة الطائفية الأشد إجراما فى حق مصر والمصريين، ولصالح التعصب الأعمى وتفكيك الدولة الوطنية لحلول دولة الفوضى والجنون الطائفى بمكانها، فيزعمون بكذبٍ فاجر أن «الكتلة السوداء» ترعاها الكنيسة. وكأن أقباط مصر ينقصهم قهر على قهر. وهو قهر يدينه ضمير كل مسلم حقيقى، وكل مصرى سوىّ الإنسانية.

 

آخر ما تابعته على الانترنت هو قرار «الكتلة السوداء» بالبحر الأحمر تفكيك حركتهم، وأتمنى أن يشمل هذا التفكيك مصر كلها. اخلعوا أقنعتكم يا أطفالى اليافعين المساكين لتسقط الأقنعة عن عتاة الإجرام السياسى والجنائى والأخلاقى فى بلادنا. قلبى يتفطَّر حزنا عليكم، وصورتكم تتقاطرون على رصيف جسرٍ فوق النيل، تنضم مؤثِّرة إلى صورة أطفال فقراء حلموا بأن يكبروا ضباطا وجنودا، مع إيقاع طبلة من صفيح، على رصيفٍ بعيد.

 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .