إلى القرآن من جديد.. 2ــ غياب القيم القرآنية|أــ الرحمة - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى القرآن من جديد.. 2ــ غياب القيم القرآنية|أــ الرحمة

نشر فى : الجمعة 31 يوليه 2015 - 8:50 ص | آخر تحديث : الجمعة 31 يوليه 2015 - 8:56 ص

ــ1ــ
حينما نزعم أن قومنا – غفر الله للجميع ــ قد هجروا القرآن هجرا بحثيا ودراسيا، فإننا نسجل الواقع، واقع التعامل والفهم من القرآن الكريم. وفى المقال السابق ذكرنا «محاصرة القرآن» حصارا شديدا بأقوال بعض الناس واعتبار أقوالهم هى المدخل الوحيد لتلقى القرآن فهما وتعاملا وسلوكا والتزاما. وهذا الحصار قد حصر القرآن وباعد بينه وبين العقول المتجددة فى الأزمنة المتلاحقة.

ــ2ــ
واليوم نشير إلى مظهر آخر من مظاهر «هجر القرآن»، وهو غياب قيم القرآن من المنظومة الفقهية بأصولها وفروعها، إذ توالى تدريس الفقه اعتمادا على آيات الأحكام دون غيرها. والأمة كلها تعلم أن غالبية الأحكام إن لم تكن كلها لم تتنزل إلا بعد بيان القيم العليا للفكر الإسلامى أو القيم العليا المسيطرة على جميع القرآن ــ سواء كانت آيات أحكام أم آيات عقائد أم آيات أخلاق أم آيات أخبار وقصص ــ، فالثابت والمعروف من القرآن الكريم أن تنزل القرآن استمر قرابة عشر سنين، أولا ينشر البذور ويغرسها فى الأرض فتنتشر الجذور قبل أن تظهر الأصول والفروع.

والبذور والجذور التى غرسها القرآن هى مكونات التربة الصالحة لأحكام الإسلام وعلاقاته، ورغم وضوح ذلك وبيانه إلا أن الأمة ــ ولشديد الأسى والأسف ــ تقف عندما دونه، فوسعوا المذاهب مرورا بتلاميذ المذاهب فى جميع العصور حتى انحصرت «رؤية الناس للقرآن» فى حدود ما رأى هؤلاء العلماء رضى الله عنهم.

ــ3ــ
وقد قسمت البذور والجذور التى أعنيها تقسيما اجرائيا معاصرا حتى يصلح للعرض والمناقشة، فأما البذور التى لا زرع ولا حصاد بغيرها فقد أطلقنا عليها علم «غاية الإسلام» وعلم «وجهة المسلم فى الحياة» ثم علم «مقاصد الشريعة»، وقد عالجنا هذه العلوم الثلاثة فى مقالات سابقة. أما اليوم فنبدأ فى رصد جذور الخطاب الدينى عامة وجذور الفقه خاصة، وتلك الجذور كما يفهم الجميع قد نبتت وانتشرت كقاعدة ثابتة «أصلها ثابت» تحمل فوقها الساق والفروع والأوراق والزهور ثم الثمار. وتلك الجذور ثلاثة علوم أخرى هى علم «القيم القرآنية» وعلم «السنن الإلهية» وعلم «أصول الدعوة».

ــ4ــ
ونعالج اليوم علم «قيم القرآن» لنعرف أهميتها فى التشريع، وفى التربية، وفى الدعوة. والقيمة الكبرى المحيطة بجميع قيم القرآن والمسيطرة والغالبة على جميع ما فى القرآن هى قيمة «الرحمة». فلا يمكن تصور حكم أو مبدأ أو فتوى أو إدارة أزمة من الأزمات دون وزنها بميزان الرحمة قبل كل الموازين والأبعاد الأخرى. وقد رأينا أهمية الرحمة وشمولها فى لمحات قرآنية كثيرة نحاول بيان أبرز معالمها.

ــ5ــ
قارئ القرآن الكريم وسامعه يدرك أن لله جل جلاله 99 اسما هى الأسماء الحسنى، قد اختارها الله أسماء وصفات له جل شأنه، ومن بين هذا العدد الكبير للأسماء الحسنى كانت إرادة الله ألا تبدأ أى سورة من كتابه إلا بذكر صفتى «الرحمن الرحيم». ورغم اشتمال السور على ثواب المحسنين وعقاب المعاندين، إلا أن القرآن يبدأ الحديث مجددا بذكر «الرحمن الرحيم». وحتى يلتفت الناس إلى تلك القيمة الكبرى جاءت سورة واحدة فى القرآن هى سورة التوبة دون ذكر «الرحمن الرحيم» فى أولها، وفهم الناس من ذلك أن القرآن الكريم وهو يذكر قواعد وأحكام معاملة الأعداء المصرين على عداء المسلمين قرر أن يبين أن المخاطبين بتلك الآيات لا يرون فيها الرحمة، فلذلك جاءت الـ«براءة» من المعاهدات وفسخ الهدنة التى تلاعبوا بها دون افتتاح الخطاب بذكر «الرحمن الرحيم». فهل أدركنا جميعا أن الرحمة قيمة إلهية وإرادة إلهية سارية يجب استحضارها والتفاعل معها فى تشريعات الحياة فيما بيننا، وفى مناهج التربية يربى الجميع على تقديم الرحمة وتعميمها وتعظيمها وتعظيم الميل إليها والارتكان عليها فى كل المعاملات البشرية.

ــ6ــ
وحتى لا نطيل القول، فلابد من التأكيد على أن الدين الذى يعاقب من حبست هرة ويثيب من سقت كلبا، لابد وأن تكون أحكامه مشمولة بالرحمة مع جميع البشر. وإذا كان الإسلام يرعى حق القطط والكلاب، فلا شك أن حقوق الإنسان أهم وأولى. فإذا أضفنا إلى ذلك تأكيد القرآن على رحمة الله إذ يقول ((..ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ..))، و((وَرَبُكَ الْغَفُورُ ذُو الرَحْمَةِ..)). كما يؤكد الإرادة الإلهية بقوله ((نَبِىءْ عِبَادِى أَنِى أَنَا الْغَفُورُ الرَحِيمُ*وَأَنَ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ)). فهل أقمنا ترسانة التشريعات ومناهج السلوك ومبادئ العلاقات على أصل الرحمة؟ أم مازالت الرحمة قيمة قرآنية عليا نقرأها ولا نتعامل بها؟!

يتبع

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات