واشنطن - خالد الخميسي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 6:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

واشنطن

نشر فى : الأحد 1 مارس 2009 - 6:17 م | آخر تحديث : الأحد 1 مارس 2009 - 6:17 م

 استقبلنى على الباب قس رجحت من ارتفاع قامته أنه كان يلعب فى شبابه، أثناء الحرب العالمية الثانية، كرة سلة. نظرت لأعلى فوجدته وسط لحيته الكثيفة البيضاء ووجهه الأسود الجميل يبتسم لى ابتسامة تقطر عذوبة ويدعونى للدخول.

خطوت بقدمى اليمنى احتراما لملابسه السوداء وياقته البيضاء وولجت إلى صالة اكتشفت أنها أكبر كثيرا مما ظننت. تقدمت بخطى وئيدة وأنا أتأمل ما حولى. وقعت عينى على كل ما يمكن أن يتخيله المرء معروضا للبيع فى تلك القاعة. رأيت لأول مرة تجسيدا حيا لمقولة «من الإبرة إلى الصاروخ» التى سمعت أنها كانت شعارنا فى الإنتاج الصناعى خلال الفترة الناصرية المرحومة.

الحوائط مغطاة بلوحات من عقود مختلفة والأرض مكدسة بكراتين متباينة الأحجام تطل منها على استحياء أشكال وأحجام وألوان تنتصر فى تعددها على قوس قزح. ظللت أمشى حتى ظننت أن صالة البيع لا نهاية لها.

هذا الاتساع والرحابة هو أول ما تلحظه بعد هبوطك إلى واشنطن، فكل شىء هناك ديناصورى الحجم. بدءا من السيارات وشبكة الطرق إلى حجم الوجبات.

وصلت أخيرا إلى آخر القاعة، هناك أعجبنى فستان فى قسم الأطفال ظننت أنه سوف ينال رضا ابنتى السامى. حاولت بخبرتى المنعدمة أن أعرف المقاس المناسب لابنتى ولكن اختلاف المقاسات المزعج بين الولايات المتحدة وبيننا جعلنى أقف مكتوف اليد. لعنت الأمريكيين الذين تفننوا فى تغيير جميع المعايير فحرارة الجو بالفهرنهايت والمسافة بالميل والمسطرة بالبوصة وطول الإنسان بالقدم، أما مقاس القدم فهناك بالإضافة إلى أرقام لا أعرفها العريض والضيق.

توجهت إلى راهبة صغيرة السن طالبا النصح، فوسعت عيناها دهشة فلم تكن تتصور أنه حتى المقاسات تختلف بين دولة وأخرى ولم تكن قد سمعت أبدا بدولة اسمها مصر. أفهمتنى بعد أن فشلت فى مساعدتى أننى فى محل تدخل مبيعاته لصالح الكنيسة وكل ما هو معروض هبات من محبى الخير، وعرفت أنها جاءت من بعيد جدا من أقاصى الغرب الأمريكى، من مدينة سياتل فى ولاية واشنطن. أما واشنطن العاصمة الفيدرالية للولايات المتحدة فيطلق عليها اختصارا «دى سى» أى مقاطعة كولومبيا.

كانت مارى فرنسية الأصل تعرف من الفرنسية لون عينيها و«بيير شارل لونفون» المهندس الفرنسى الذى قام بتخطيط العاصمة الأمريكية. سألتها عما يجب أن أراه فأجابت أنها لم تشاهد إلا «الكابيتول» وهو مقر الكونجرس الأمريكى وقد اختار موقعه نفس المهندس الفرنسى على تلة ترتفع عن نهر «بوتوماك» بسبعة وعشرين مترا. كانت مبتهجة بفرنسية العاصمة فأجبتها أن قاهرتى أيضا خطط لحى وسط المدينة بها البارون «جورج هوسمان» وأننا بذلك متعادلان.

ويعد الكابيتول بالنسبة إلى واشنطون كميدان العتبة فى القاهرة هو نقطة الارتكاز، فالعاصمة الأمريكية مقسمة لمربعات يتحدد اسم كل منها حسب موقعه من مبنى السلطة التشريعية، شمال غرب أو جنوب شرق بنظام إحداثى ديكارتى، نسبة إلى الرياضى والفيلسوف «رينيه ديكارت» وهو فرنسى آخر. ويبعد البيت الأبيض ميلا واحدا عن الكابيتول.

ولا معنى فلسفى بالتأكيد وراء تحديد ميدان العتبة كنقطة ارتكاز لتحديد المسافات بين القاهرة والمدن الأخرى ولكن فى حالة واشنطن المعنى محمّل بالإيحاءات.

فالعاصمة هى مقر السلطة التشريعية وليست مقر الحاكم أو الرئيس. فالسلطة التشريعية هى نقطة ارتكاز الدولة الأمريكية. والطريف أن الكابيتول ليس فقط قلبا للعاصمة بمنطق ثنائى الأبعاد فقط أى على الأرض ولكنه أيضا ثلاثى الأبعاد، أقصد هنا ارتفاع قبته فى الفضاء. فقد صدر قرار عام 1899 ما زال ساريا حتى الآن يمنع تشييد بنايات تعلو على قمة مبنى الكابيتول، على غرار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وبالتالى فواشنطن تخلو تماما من ناطحات السحاب المنتشرة فى كل المدن الكبرى الأمريكية وتحتفظ بطابع نيوكلاسيكى رائع الجمال.

طلبت منى مارى فى محاولة أخيرة لمساعدتى وسط تضارب المعايير أن أضع اصبعى على الحائط فى محاولة لتحديد طول ابنتى التى كانت تبلغ حينذاك العاشرة من عمرها، فأشرت على سبيل المزاح وأنا أضحك على نقطة يتعدى ارتفاعها المترين، ثم أشرت بحركة تمثيلية إلى أنها أضخم منى ثلاثة أضعاف علما بأن وزنى كان يقارب المائة كيلوجرام، فنظرت لى دون أى تعبير عن استغراب أو دهشة وقالت لى بجدية «أتصور أن هذا المقاس غير موجود هنا».

أدهشتنى بشدة حالة السذاجة التى تقترب من البله عند الأمريكيين.

جميل ورائع حقا أن تكون دائما صادقا حتى يثبت العكس، ولكن تمنعك حالة البله تلك أن تطلق النكات أو أن تطلق لسخريتك العنان. لابد دائما أن تتلوها بترجمة وتعلن صراحة أنك ألقيت لتوّك نكتة. ماذا يجعلنا نرتاب فى كل شىء ويجعلهم يصدقون كل شىء؟ تاريخ مغاير أم بالأحرى تاريخ فى مواجهة اللا تاريخ.

اشتريت فى النهاية شنطة سامسونايت وتوجهت إلى البوابة ليستقبلنى القس العملاق، كان السعر المعلن هو خمسون دولارا، بدأت على الفور فصالا اعتدته مع تجار خان الخليلى. فسألنى القس لماذا أريد أن أدفع أقل مما هو مطلوب؟ فأجبته كاذبا أننى لا أملك الآن سوى عشرة دولارات.

فسألنى عن مدى احتياجى للشنطة فأجبته أننى مسافر زاده الخيال وأطنان من الهدايا للعائلة فوافق فى الحال على العشرة دولارات سعرا للسامسونايت. خرجت فخورا بكذبى وسرت حتى وجدت نفسى تحت أقدام المسلة الفرعونية فى مواجهة البيت الأبيض وتساءلت هل يعرف الرئيس الأمريكى أن تلك المسلة «مصرية»؟

خالد الخميسي  كاتب مصري