الإنسان والروح - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنسان والروح

نشر فى : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:15 م

إذا اتفقنا مع الأديان السماوية على أن للإنسان روحا فهذا يدعونا أن نكون جديرين بأن نسمو بأنفسنا إلى معانٍ عليا نحاول أن نحققها على أرض الواقع وذلك ليس بالتأمل فيها نظريا لكن بترجمة هذه المعانى الروحية مثل التواضع والحب لله والآخر وذلك بتقديم يد المعونة للفقير والجاهل والمريض والمتألم.....إلخ. لكن المشكلة تنشأ عندما نجد الإنسان الذى يتحدث دائما عن الروحانية بفمه يبتعد عنها بسلوكه، وعندما نتأمل هذه الظاهرة الغريبة فى بلادنا نلاحظ أن الإنسان المصرى المتعبد لله منذ نعومة أظافره مسيحيا كان أم مسلما يقوم بممارسة العبادة بشكل جاد ومهم فهناك مواسم سنوية فيها تمتلئ الكنائس والمساجد بالمصلين مثل شهر رمضان الذى تجد فيه الأغلبية الساحقة من المسلمين قد اتجهوا نحو ممارسة عبادة الله من صوم وصلاة وزكاة....إلخ وهو نفس ما يحدث فى مواسم الأصوام المسيحية للمسيحيين قبل عيد الميلاد وعيد القيامة فهل هذا يكفى للتعبير عن علاقتنا بالله؟ وهل هذا هو الذى يرضى الله؟

***

يعَرف بعض الفلاسفة الإنسان بأنه الكائن الذى لديه وعى بذاته، وعى بواقعه وكرامته الإنسانية، وهذا الوعى ينبثق بوضوح فى اللحظة التى ينطق فيها الإنسان بكلمة «أنا» وعندما يقول الإنسان «أنا» هذا يعنى أنه اكتشف قيمة ذاته وحياته بل وقيمة الحياة ككل، وعندما يمتلئ الإنسان بهذا المفهوم «قيمة الحياة» يكون هنا قد تعرف على حقيقة الفارق بينه وبين الحيوان؛ فقيمة الحياة عند الحيوان تتمثل فى رغبته ــ من خلال غريزته ــ فى الحفاظ على حياته ضد المخاطر التى يتعرض لها، أما قيمة الإنسان الحقيقية فلا تتحقق إلا من خلال تعريض حياته للخطر من خلال استقلاله عن حياة القطيع الذى يساق إليه وفيه منذ ولادته حيث يكون لنفسه فلسفة حياة ومسارا واضحا لتحقيق ذاته من خلال تلك الفلسفة، وذلك لا يتم إلا بعد اجتيازه قلق الموت حيث إن مثل هذا القلق هو الذى يحفظه فى داخل القطيع محميا به لكنه إذا نجح فى اجتياز وتجاوز قلق الموت هنا فقط يصل إلى حريته الأصيلة، واجتياز قلق الموت يبدو واضحا عندما يعمل الإنسان لأجل مصلحة الإنسانية جمعاء أو الإنسان الآخر فيبذل نفسه لأجل مبادئ إنسانية عليا، وهذا لا يتم تحقيقة إلا إذا كان لدى الإنسان اعتقاد واضح بوجود الروح وبقوة تلك الروح التى تهبه جراءة الحقيقة فى مواجهة الواقع المحيط به والذى يمتلئ بالأنانية ومحاولة الإنسان أن يصعد على جثث الآخرين ليغتنى أو يحصل على منصب رفيع أو سلطة ما، ووسط هذا الصراع القاتل بين البشر على جميع المستويات تبرز حقيقة الإنسان وموقفه من الحياة المادية المحيطة، هنا نجد الموقف من الألم الذى هو رفيق الإنسان الأزلى سواء كان ألما نفسيا (الخوف ــ التوتر ــ الاكتئاب... إلخ ) أو ألما جسديا (الأمراض بكل أنواعها) وأخيرا الألم الروحى بفقدان الرجاء فى الله أو فى الروح الأزلى التى له علاقة بها، وهنا تتضح معادن وأنواع البشر، وهكذا نجد أنفسنا نتخذ أحد المواقف الثلاثة الآتية: موقف عدم قدرة الإنسان على مواجهة الحياة بكل ما فيها من شراسة وعنف ومنافسة غير شريفة، وهنا يقوم الإنسان بالانسحاب إلى الداخل (داخل الإنسان ووسط القطيع) والعيش فى فضاء افتراضى يخلقه الإنسان لذاته، وهنا أمامه طريقان طريق المخدرات والإدمان... إلخ أو طريق عكس ذلك تماما إن كان متعلقا بالله ويؤمن بالروح ونرى هذا واضحا فى دعوات التصوف الإسلامى أو الرهبنة المسيحية أو النيرفانا البوذية حيث أعلى درجات السمو الروحى، وهنا يتجنب الإنسان المواجهة الواقعية للحياة فيحيل كل الظواهر التى تقتحمه أو يقتحمها من كوارث طبيعية أو إنسانية أو أمراض إلى الله أو قوى خفية وكل نجاح وتقدم إلى الله أيضا حيث كان الألم نوعا من التأديب والتقويم الإلهى أو إلى أرواح طيبة كأرواح الأجداد. أما الموقف الثانى فهو موقف المواجهة الواقعية للحياة بالتعرف عليها كما هى وليست كما يتمناها وهنا ينتقل الإنسان من مرحلة الطفولة الإنسانية إلى مرحلة النضج حيث يرجع الظواهر إلى أسبابها الحقيقية فيتخذ موقفا واعيا ويصارع من أجل البقاء والغنى والارتقاء فى السلم الاجتماعى. وهنا يستطيع الإنسان بهذا الموقف أن يتقدم ويحضر. هذه الجادية تجعل الإنسان مهموما بكل معرفة جديدة. قلقا على المستقبل فهو لا يتجاوز قلق الموت وذلك لعدم وصوله لعلاج لكل مشاكله أو أمراضه وهذه النوعية من البشر قادرة على الإنجاز وتحقيق الذات والفعل والقيادة، لذلك تجد أمثال هؤلاء ينجزون الكثير ويحققون طموحاتهم وما حلموا به فى بداياتهم لكن هذا النموذج من البشر يموت سريعا من القلق والخوف من الموت وهناك حكمة قديمة مقدسة تقول «مع كثرة العلم كثرة الغم ومن يزيد علما يزيد حزنا» وذلك لأنه يقَدر مصاعب وآلام ومعوقات التقدم والحركة للأمام، أما الموقف الثالث من الحياة فهو موقف الإنسان الساخر وهذه السخرية لا تأتى بسبب الاستهتار أو الاحتقار للحياة بأنها فانية ولا قيمة لها لكن السخرية هى موقف فلسفى فهو يشاهد الحياة كما يشاهد مسرحية هزلية ويحلل كل موقف سياسى أو اجتماعى أو دينى مزيف بطريقة ساخرة فكل موقف جاد يكتشف فيه ما يثير الضحك وهذا لا يعنى أنه إنسان مستهتر أو لا يأخذ الحياة بجدية أو ليس لديه روحانية بل العكس هو الصحيح إنه موقف فلسفى روحى بكل المقاييس فالفيلسوف يسخر من الموت كما الحياة ومن الحزن كما الفرح ومن البشر كما الحيوانات ومن المتدينين كما الملحدين ومن السياسيين والحكام كما المحكومين والبلهاء فهذه السخرية تجعل الساخرين الروحانيين يرون الناس والأمور على حقيقتهم وهكذا يتجاوزون الخوف من الموت إنهم أولئك الذين يعلمون أن السخرية (الكاريكاتير) هى فن المبالغة لذلك لا تكون السخرية تعبيرا فقط عن واقع القضية لكنها أيضا تلفت النظر إلى أن هناك خطأ ما فى القضية الحياتية تعطيها أكبر من حجمها بشكل ساخر فيتداركه الناس، وللتعبير عن هذه الفكرة نذكر حدثا تاريخيا وقع فى فلسطين عام 3000 ق.م عندما كانت عدة قبائل تتصارع على حكم البلاد، وبعد حرب إبادة بين قبيلتين انتصرت إحداهما وحكمت فلسطين فوقف شاب من القبيلة التى هزمت على رأس جبل خارج المدينة ورفع صوته فتجمع حوله الناس فقال لهم: اسمعوا، مرة ذهبت الأشجار لتختار ملكا عليها فقالت الزيتونة املكى علينا فقالت الزيتونة أأترك دهنى الذى يكرمنى به الله والناس وأذهب لكى أملك على الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة تعالى أنت واملكى علينا فقالت التينة أأترك حلاوتى وثمرى الطيب وأذهب لكى أملك على الأشجار وأخيرا قالت الأشجار للعوسج (شجر الشوك) تعال أنت واملك علينا فقال العوسج للأشجار إن كنتم بالحق تختارونى ملكا فتعالوا واحتموا تحت ظلى وإلا لتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان.

***

نرى هنا ــ عزيزى القارئ ــ صورة كاريكاتورية توضح أن الصراع على الحكم الذى يعتبره الإنسان أهم قضية فى الوجود أو من أهمها حيث تندلع حروب ويقتل بشر ويفتقر أناس لأجل أن يحكم فرد أو أسرة باقى الجماعات، أو يحدث ذات الصراع فى مجال أضيق مثل التحكم فى شركة أو مؤسسة وهنا يريد المؤلف القول ليس شرطا أن يكون المتحكم هو الأصلح أو هم لكن فى الغالب الأكثر عنفا وقوة وهؤلاء لم يتجاوزوا قلق الموت أما الذين تجاوزوا مثل هذا القلق فهم الحكماء (التين والزيتون) الذين ينفعون الناس بدينهم وحكمتهم وعلمهم وفنهم وثقافتهم وهؤلاء يرفضون الحكم والسيطرة بالقوة والبطش لأنهم يشعرون أنهم يقدمون للبشرية ما يشبعهم ويريحهم وهكذا يدفعون الناس ليتجاوزوا قلق الموت كما فعلوا هم.

إن أولئك الذين يعلمون يدركون أن علاقة الإنسان بالوجود تتوقف على ثلاثة: الاعتقاد بقوة الروح وجراءة الحقيقة مما يهبهم البعد الثالث إمكانية تجاوز القلق من الموت فى موقف ساخر من الحياة وأولئك هم الذين دائما يرثون الأرض كما حكى ومازال يحكى لنا التاريخ.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات