الحرباء - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحرباء

نشر فى : الأحد 1 أغسطس 2010 - 9:53 ص | آخر تحديث : الأحد 1 أغسطس 2010 - 9:56 ص

اضطرتنى ظروف الحياة أن أخوض غمار أسواق القاهرة للتسوق. الأمر الذى جعلنى أتقابل وأتحدث مع عشرات البائعين فى مختلف التخصصات. وكلما قمت باختيار منتج مصرى الصنع كان كل بائع يحذرنى بصوت الفاهم الحاذق: «بس يا أستاذ، ده مصرى.» ويأخذه من يدى ويناولنى منتجا مستوردا، حتى وصل الأمر أننى كنت أشترى «ربسوس» فوجدت البائع يقدم لى منتجات أجنبية مستوردة لحلويات فرنسية، وعندما اخترت ما أعرفه وما كنت أستهلكه فى طفولتى، وجدته هو الآخر يحذرنى بنفس اللهجة الأبوية أن هذا المنتج مصرى وعلىَّ أن أختار منتجا آخر حرصا على سلامتى.

وحتى ينتهى الأمر بنكتة، التقيت أمس صديقا قديما لى حكى لى أنه كان يقوم بجولة قاهرية لأستاذ سويدى وعائلته يزورون مصر لأول مرة وكانوا يريدون مشاهدة فاصل من الرقص الشرقى وعندما بحث فى الأمر وجد راقصات من اليابان وروسيا ورومانيا وغيرها من الدول وعندما سأل عن راقصات مصريات جاءت الإجابة أنهن أصبحن لا يعرفن كيف يرقصن رقصا شرقيا وأن الخواجات أفضل كثيرا. كان لا بد أن أفكر مليا فى هذا الأمر.

يشغل الاستهلاك حيزا كبيرا فى حياة الإنسان من حيث الزمن وكذلك من حيث الأهمية الرمزية. وتتضافر عشرات العوامل فى تحديد السلوك الاستهلاكى للفرد. وتندرج هذه العوامل فى دوائر تخصصات علوم الاقتصاد والاجتماع والنفس. تصور الاقتصاديون الكلاسيكيون أمثال آدم سميث ودافيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل أن المستهلك يتصرف دائما برشد وعقلانية وأن اختياراته تكون دقيقة وقائمة على دراسة ما يحتاجه بالفعل وكذلك دراسة الأسعار المتداولة فى السوق. ثم جاء آخرون وأكدوا على العكس أن دوافع المستهلك تكون فى العادة غير رشيدة ولا عاقلة، ثم جاء الفرويديون ليقوموا بدراسة الوظيفة الرمزية للاستهلاك، وبناء على ما قدموه يمكن فهم اتجاه مستهلك ما لشراء منتج للونه مثلا أو للشكل الذى يتخذه وعلاقة هذا بتاريخ الفرد النفسى. اليوم يؤكد العلماء أن هناك احتياجات نفسية مؤكدة وراء عملية الاستهلاك وهى أولا: الأمن، وثانيا: الانتساب للمجتمع المحيط، وثالثا: إضفاء القيمة والاحترام، ورابعا وأخيرا: التحقق.

وأمام الاحتياجات النفسية للمستهلك تتشكل ذهنية هذا الفرد أو وضعيته الفكرية إزاء سلوكه الاستهلاكى. وذهنية المستهلك هذه هى مجموعة اعتقاداته ومشاعره ونواياه الاستهلاكية إزاء المعروض. ويكون هذا المستهلك مثل الحرباء التى تغير لونها بصفة مستمرة تبعا للبيئة المحيطة. فالمستهلك هو الآخر تتغير ذهنيته الاستهلاكية بصورة متصلة بتغير مجموعة الاعتقادات والمشاعر والنوايا.

كيف يمكننا إذن التعامل مع هذا المستهلك الحرباء للتأثير عليه ليغير من سلوكه الاستهلاكى؟ الأمر غاية فى الصعوبة. فالدراسات الأخيرة تشير إلى أن عملية التأثير فى السلوك الاستهلاكى العام أصبحت أصعب كثيرا مما كانت عليه منذ أقل من عشر سنوات. تداخلت فى هذا: الزيادة المطردة فى المعروض، والثورة التقنية، وسيولة المعلومات، وأخيرا تنامى الشبكات الاحتكارية. لا بد من تحليل ما هو قائم.

نحن اليوم نعيش حالة كراهية وتحقيرا للذات أصبحت تأخذ شكل الظاهرة الاجتماعية شديدة الخطورة. الاحتياجات النفسية للمستهلك تدفع كلها فى اتجاه شراء ما هو غير مصرى. والأمر يتعدى عامل الجودة وسمعة المنتج المحلى إلى ما هو اجتماعى ونفسى. فـ«الربسوس» المصرى على سبيل المثال كان أفضل كثيرا من مثيله الفرنسى، ولكنه شعور اجتماعى عام تنامى بهدوء فى اتجاه مشاعر دونية دفينة فى طريق انتحار جماعى. فكما الحرباء تعيش فى عزلة وفى حالة توحد. أصبحنا نسير وحدنا ونظهر أسوأ ما فينا ونتلذذ بإظهار أوجه ضعفنا.

يؤكد العلم الحديث أن قادة الرأى يمكن أن يلعبوا دورا مهما فى التأثير على السلوك الاستهلاكى. ولذلك تلجأ الشركات كثيرا إلى تأجير جهود مشاهير للدعاية لمنتجاتها. وعلينا اليوم التوجه إلى قادة الرأى للتأثير فى المجتمع. ليس بالتأكيد بالقول: «اشترى مصرى». ولكن بدراسة اجتماعية ونفسية تحلل الأسباب والدوافع وبناء عليها يتم توجيه جهود قادة الرأى. على الحرباء أن تغير مرة جديدة لونها والعودة مرة جديدة للون طمى النيل.


خالد الخميسي  كاتب مصري