السيدة تيفود! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السيدة تيفود!

نشر فى : الخميس 1 أكتوبر 2009 - 8:47 ص | آخر تحديث : الخميس 1 أكتوبر 2009 - 8:47 ص

 عندما أنهيت مقالة الأسبوع الفائت بعبارة «وللتيفود عودة»، لم أكن أتصور إلا أن أعود لإكمال الموضوع الذى بدأته وطال أكثر مما ينبغى، وخشيت أن يتم ضغط حروفه وسطوره فتصعب قراءته. كما أن الجزء المتبقى كان يحتوى على قصة طريفة وغريبة، رأيت وأرى أنها تنطوى على مغزى مدهش، ولطالما كان مثل هذا المغزى دليلى الحافز للكتابة التى أكتبها، فعندى هاجس يقارب اليقين بأن هناك قانونا حاكما يتكرر فى كل ظاهرة، من أصغر مكوناتها وحتى أكبر المكونات، وأن العثور على هذا القانون يضىء خفايا الظاهرة كلها، ويلقى بمزيد من الضوء على خبايا ظواهر مشابهة أو مجاورة، وهكذا رأيت فى السلوك المراوغ لعُصيَّات بكتريا التيفود وليدة القذارة، تمثيلا مصغّرا لمراوغات سياسية واجتماعية أكبر وأشمل، تكون حيث يكون التيفود، وتنتمى للقذارة مثله، وإن بأشكال مختلفة.

فوجئت بعد يومين من نشر المقال، أن العودة التى أومأت إليها تتجسد فى اتجاه مختلف لم يخطر ببالى، وإن كان واردا من واقع مراوغات التيفود التى أشرت إليها، فثمة عودة فعلية تمثلت فى ظهور 300 إصابة فى 4 قرى فى محافظة القليوبية، وكان المنشور فى الصفحة الأولى من جريدة «الشروق» عدد السبت 26 سبتمبر يكشف عن ملابسات غريبة لإغلاق معامل تحليل كشفت تداعيات الوباء، وتحويل طبيب إلى التحقيق بزعم أنه نَشر أسرار المرضى الذين تأكدت إصابتهم بالتيفود!

والتيفود، فى اعتقادى، وباء ربما أخطر من وباء إنفلونزا الخنازير التى تروِّعنا به منظمة الصحة «العولمية» التى يبدو أنها تحولت إلى منصة إعلامية لا هيئة علمية، وباتت قناة لبث الرعب ودعم التسويق الدوائى أكثر من كونها مصدرا للطمأنينة العلمية وكبح جماح شركات الأدوية العالمية العملاقة عابرة القارات والمسعورة على الربح. أوقفتنا هذه المنظمة «الدولية» فى موقف الحيرة، وزودت حكوماتنا العشوائية بمزيد من مبررات الهرجلة والتخويف لمآرب قد تكون الصحة آخرها أو خارجها، بينما التيفود سارح تحت أقدامنا وبين أيادينا، ليس فى مياه الشرب المختلطة بمياه المجارى فى القرى المنكوبة وحدها، بل فى الزراعات الإجرامية المروية بمياه الصرف والتى لم يتوقف ظهورها عند حدود العاصمة، بل كشفت الصحافة والإعلام المستقلَّين عن وجودها فى أكثر من مكان من الدلتا حتى الصعيد.

هذه الزراعة الملعونة، والتى تدل على حال الزراعة المصرية التى يجرى وأدها بتسارع أحمق واندفاع غبى، ليست جريمة الحكومة وحدها وإن كانت الحكومة مجرمها الأكبر، فهناك مجرم مشارك هو المزارعون الذين نامت ضمائرهم عن تسميم وإمراض الناس، بإطعامهم من حقول مروية بمياه واضحة التلوث، وليمت من يمت ويمرض من يمرض مادام هؤلاء المزارعون سيعيشون، وهى عيشة خسيسة بلا شك، لكنها لا تعدم التبرير وراء التبرير، فى عصور انحطاط الأمم، وتدهور أخلاقيات الحكومات والشعوب.

وها هو التيفود بالفعل يعود، وسواء كان عدد المصابين ثلاثمائة أو ثلاثين، فإن الأمر خطير، لأن هذا المرض لاينقضى بعلاج المصابين به، بل يظل 3% منهم حاملين للميكروب فى حويصلاتهم وقنواتهم المرارية، ويصيرون مصادر مستمرة للعدوى، إن لم يتلقوا علاجا مكثفا بمضاد حيوى قوى ومناسب لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر. فلو حسبنا هذه النسبة من حاملى الميكروب لبدا الأمر خطيرا بالفعل، فحالة واحدة من حالات الأصحاء حاملى الميكروب روّعت الولايات المتحدة منذ ما يقارب القرن، وهى صاحبة القصة التى وعدت بالعودة إليها، والتى أعرضها الآن، دون تعليق..
اسمها «مارى مالون»، وهى مهاجرة أيرلندية كانت تشتغل طباخة فى البيوت بمدينة نيويورك، ولما تكرر ظهور حالات تيفود بالجملة بين أفراد الأسر التى تنقلت للعمل بينها، ثارت الشكوك لدى السلطات الصحية بالمدينة، ورفضت مارى أن تخضع لتحليلات تؤكد أو تنفى هذه الشكوك. وبقوة القانون أُخضِعَت لإجراء التحليلات، وثبت عام 1907 أنها حامل لميكروب التيفود وناقل نشط له برغم بقائها فى صحة جيدة.

كانت بذلك أول حالة فى الولايات المتحدة يتقرر أنها حامل للتيفود Carrier، وفُسِّر هذا بقوة بنيتها الأيرلندية الأصل، واكتسابها للمناعة ضد الميكروب كونها أصيبت به وهى فى بطن أمها التى مرضت بالتيفود فى أثناء حملها.

كان عدد من نشرت بينهم مارى المرض يُقدَّر بالمئات، لهذا خيَّرتها السلطات الصحية بين أمرين، إما أن تكف عن العمل كطباخة، أو تُجرَى لها جراحة لإزالة مرارتها التى يختبئ فيها الميكروب ويرسل طلائعه لنشر العدوى حيثما حلّت. واختارت مارى أن تكف عن الطبخ. لكنها لم تَصْدُق وعادت تطبخ. وبالتعقُّب الصحى للمصابين الجدد وصلت السلطات مرة أخرى إلى مارى، وتم إيداعها فى الحجر الصحى الإجبارى بمستشفى فى جزيرة «نورث برازر» لثلاث سنوات.

لم تغادر مارى الحجْر إلا بعد تعهدها بتغيير مهنتها، واشتغلت كواءة، لكن دخلها من كى الملابس كان أقل من دخلها السابق، فاختفت عن الأنظار! غيرت اسمها إلى «مارى براون» وانتقلت إلى منطقة بعيدة وعملت طباخة من جديد، بل طباخة فى مستشفى «سلوآن» لأمراض النساء، فكان أن ظهرت 25 حالة مصابة بالتيفود توفت منهم واحدة، وتم ضبط مارى، وأُعيدت إلى الحجْر الصحى فى مستشفى جزيرة «نورث برازر» تحت رقابة مشددة، وأُعطيت عملا يحميها من ثقل الشعور بالمهانة، وبالضجر، لكنه كان عملا أبعد ما يكون عن المطبخ.

استمرت مارى محتجزة فى الحجْر 23 عاما حتى وافتها المنية بين أسواره. ماتت بالتهاب رئوى بعد جلطة بالمخ وشلل نصفى، وكان عمرها تسعة وستين عاما، وبموتها مات التيفود القابع فى مرارتها، لكنه لم يمت فى اسمها الذى صار فى تاريخ الطب، وفى سيرة التيفود: «مارى تيفود»!!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .