الطريق الثالث.. إلى أين؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطريق الثالث.. إلى أين؟

نشر فى : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 10:46 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 10:46 ص

 يبدو مصطلح «الثالث» نوعا من التعبير المحايد الذى يلوذ به من يريد إيجاد مخرج من حدة التمايز بين منهجين أو كيانين، لكل منهما تعريفه الدقيق وحدوده الواضحة، دون التزام بوضع حدود له، وإلا ترك فراغات تحتاج لملئها. بعبارة أخرى، فهو يؤخذ على أنه كل ما هو ليس هذا ولا ذاك. ولعل البداية كانت فيما شاع فى أعقاب الثورة الفرنسية من إدراج من لم يكن من طبقة النبلاء أو من رجال الكنيسة فى زمرة ثالثة، تضم خليطا من فئات يجمعها عدم الانتماء إلى تلكما الطبقتين. وعندما بدأت الدول المتخلفة سعيها إلى النمو جرى الجمع بينها فى «عالم ثالث» يختلف عن عالمين أولهما يضم الدول التى شقت طريقها إلى التقدم باتباع النهج الرأسمالى، وثانيهما ساءه ما تعرضت له جماهير عريضة من استغلال فاتبع النهج الاشتراكى. ومضى ذلك العالم يجرى التجربة والخطأ عن منهج لتوجيه النشاط الاقتصادى وما يترتب عليه من توزيع نتائجه، يتراوح بين حرية السوق وفق المنهج الرأسمالى، ومركزية التخطيط التى دعا إليها المنهج الاشتراكى. ويرجع بعض الكتاب مصطلح الطريق الثالث بالمعنى المتداول مؤخرا إلى الدعوة التى أطلقها البابا بيوس الثانى عشر فى نهاية القرن التاسع عشر إلى طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية. غير أن انتقال المصطلح من الدعوة إلى التطبيق خلال العقدين الأخيرين أظهر أن التسمية تحتمل صيغا متعددة ومتباينة، وأنها فى الغالب كانت تبطن أكثر مما تظهر، بل وربما صكت ككلمة حق يراد بها باطل.

ففى خلال الثمانينيات تحول المنهج الرأسمالى ذاته إلى هجمة شرسة من المدرسة الليبرالية الجديدة فى الدولتين القائدتين، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ففى الولايات المتحدة سعى رونالد ريجان (الممثل السابق) إلى مناجاة لكبار رجال الأعمال بإعفاءات ضريبية بدعوى تشجيعهم على التوسع فى الإنتاج جريا وراء ربحية متزايدة. واقتضى هذا بالضرورة تراجع دور الدولة وضمور الإنفاق الاجتماعى. أما وقد انهار المعسكر الاشتراكى فقد اعتمد كلينتون نصيحة مستشاريه فأعلن فى 1992 ما سماه الطريق الثالث بين أولئك الذين يدعون أن الحكومة هى العدو وأولئك الذين يرون أنها هى الحل. وأعلن أن الولايات المتحدة أصبح لديها أصغر حكومة على مدى 35 عاما، ولكن شعبا أقوى. فلم يأت الاختيار كوسيط بين الرأسمالية والاشتراكية، بل مثل تحديدا لدور الدولة فى ظل النظام الرأسمالى. ولذلك فإن الجدل الذى ثار مؤخرا حول أسلوب التعامل مع الأزمة المالية التى ما زالت تخيم على العالم، تركز حول محاولته إعطاء الدولة دورا رقابيا أوسع مقابل مساندته لقطاع المال حتى يقيه من الانهيار. ورغم ذلك فإن التيار الليبرالى الرافض لأى تدخل حكومى اتهم تلك السياسة بأنها جنوح نحو الاشتراكية التى هى ــ فى نظرهم ــ شر يجب الوقاية منه. وأحيى هذا أملا لدى البعض بأن يعتنق معقل النظام الرأسمالى طريقا ثالثا يرد للطريق الاشتراكى بعض اعتباره.

أما فى بريطانيا، مهد الرأسمالية ومنشأها، فقد تبنت ثاتشر خلال الثمانينيات نظرة أشد عداوة لكل ما هو مجتمعى، بل إنها رفضت السياسة الاجتماعية التى تبنتها الجماعة الأوروبية، ليس مساندة لرأسمالية محلية، بل استجداء للرأسمالية العالمية التى وجهت استثماراتها إلى بريطانيا مفضلة إياها على باقى دول الاتحاد الأوروبى، لأن تكلفة عنصر العمل أقل. فضربت بذلك نموذجا لسيادة رأس المال على حساب العمال وتقديس الاستثمار الأجنبى المباشر، وبخاصة فى الفروع التكنولوجية الحديثة. وختمت بذلك النجاح الرابع على التوالى للمحافظين، ولكنها دفعت حزب العمال الذى فاز فى انتخابات أبريل 1992، للجنوح نحو اليمين على يد جون سميث ومن بعده تونى بلير، فأنهى العمل بالمادة الرابعة من دستور الحزب التى تفرض الالتزام بملكية الدولة لأدوات الإنتاج، كما جرى تخفيف العلاقات بالحركة النقابية. وأسقطت الإشارة إلى مصطلح الاشتراكية، فلم يعد يظهر فى مانيفستو الحزب. وفى 1997 أعلن تونى بلير أن الحزب لم يعد اشتراكيا كالحزب القديم ولم يصبح ثاتشريا، بل يتبع طريقا ثالثا، أى أنه حزب عمل جديد، يستجيب لمتطلبات العولمة، ويجمع بين الديناميكية (وهى ديناميكية الأسواق) والعدالة. وانتقل المصطلح إلى زعماء أوروبيين آخرين.

وحتى لا يترتب على انفراد القطاع الخاص بالنشاط الإنتاجى وتقليص دور الدولة مع انكماش نصيبها من الدخل القومى، تدهور فى النشاط الاجتماعى، توزعت المسئولية الاجتماعية بين المستفيدين أنفسهم وهم العمال وتشكيلات اجتماعية أنشئت ولقيت تعزيزا تحت مسمى مؤسسات المجتمع المدنى، ونودى بالشراكة بين الثلاثة: الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى. وقام بالتنظير للمنهج البريطانى عالم الاجتماع ومدير مدرسة لندن للاقتصاد، أنتونى جيدنز الذى أكد أننا نعيش فى عالم لا بديل فيه للرأسمالية، وإن كان للاشتراكية آثارها التى لا تنكر. فنادى بموجة جديدة من الديمقراطية بالتوجه مباشرة إلى الناس، وتحقيق الترابط بين الدولة والسوق والمجتمع المدنى، وتطوير مفهوم اعتماد جانب العرض (المتحيز لحرية رجال الأعمال) بالاستثمار فى رأس المال البشرى من خلال التعليم، وتطوير البنية الأساسية، والقيام بالتحديث الإيكولوجى مراعاة لسلامة البيئة، وإحداث تعديل جوهرى لدولة الرفاهة بإيجاد توازن بين المخاطر والضمان، وهو ما يعنى نقل المسئولية عنها من الحكومة إلى المجتمع ليتولاها مباشرة. وطالب بالالتزام القوى بالمبادرات عبر القومية فى عالم ينتشر فيه غموض السيادة، وهو ما رفع هيمنة رأس المال فوق المستوى الوطنى الذى ارتبط ارتفاع شأنه بمدى التقدم فى الرأسمالية الصناعية التقليدية.

خلاصة القول أن الطريق المقترح لا يعنى التمرد على النظام الرأسمالى التقليدى الذى أثبت فجاجته، بل تطويع شبكة العلاقات الاجتماعية لتتكيف مع التغيرات الجامحة التى أحدثتها العولمة، التى نتجت بدورها عن تغيير الحدود الفاصلة بين القطاعات المختلفة فى الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يلزم لذلك من تغيرات فى المنظومات الثقافية. وهكذا فإن القضية لم تعد حل جدلية العلاقة بين السوق والدولة، بل هى تحقيق التماسك الاجتماعى. وللفصل فى هذه القضية تطرح حلول قائمة على تنمية رأس المال الاجتماعى وبناء الثقة الاجتماعية، من خلال تشجيع مختلف الأعمال التطوعية، والأخذ بالممارسات الجماعية ليس فقط على المستوى المحلى بل والوطنى أيضا، وزيادة الاهتمام بالطيبات الاجتماعية أو المشتركة، كالبيئة. إن هذه المهام تكاد تلغى وصاية فئة على أخرى، وتزيد من الساحة التى يتعين على الفرد أن يتخذ فيها قرارات ذات طبيعة متفاوتة، ومن ثم تتطلب إعداده منذ الصغر للاعتماد على النفس وحسن الاختيار ليس فقط لينعم بخصوصياته، بل، وبالضرورة، أن يتبادل هذا التنعم مع أبناء مجتمع لا ينحصر فى جماعة عرقية أو ثقافية أو مهنية ينتمى إليها، بل يتفاعل مع تعددية أبعاده وامتداده إلى حدود أبعد من موطنه اللصيق تشمل فى منتهاها الكوكب الذى يعيش فيه.

لقد أصبح الفرد وحدة شبكية تتداخل خيوطها مع قرناء له، ومن ثم لم تعد الديمقراطية ترفا أو حلما يصبو إلى تحقيقه، كما أنها لم تعد مقتصرة على مجرد الإنابة، بل إنها تستوجب مبادرة من الفرد وتوافقا مع مبادرات الجميع، الأمر الذى يستدعى إعادة تعريف العقد الاجتماعى، وعدم حصر الطريق الثالث فى موقع يتوسط المساحة بين الرأسمالية والاشتراكية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات