الست غالية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 2:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الست غالية

نشر فى : الخميس 2 فبراير 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 2 فبراير 2012 - 9:25 ص

نهار الأحد الماضى كانت سيدة مصرية الملامح من أبناء الأحياء الشعبية تمر ومعها شاب معاق ضئيل الحجم بلحية ليست كثيفة أمام مبنى التليفزيون، وكانت هناك اشتباكات بين بعض شباب المعتصمين ومجهولين بادروا بالهجوم عليهم بالزجاجات الفارغة والحجارة من خارج منطقة الاعتصام. الشاب الذى تقول ملامحه أنه تجاوز العشرين كان ينطوى على قلب طفل فى صدره وبراءة طفل فى وعيه بالعالم، ولقد روعته قسوة الاشتباكات حتى أنه تشبث بالسيدة مذعورا مما يراه، ووضح أنه لا ينطق وإن كان يسمع جيدا ويفهم، لهذا استجاب لطمأنتها له ألا يخاف، ومضى فى ظلها متلفتا حتى عبرا منطقة التقاتل، وصعدا فى عمارة من العمائر المطلة على النيل فى منطقة ماسبيرو.

 

بعد قليل كانت السيدة تطل على ملايين المشاهدين الذين تتسع دائرتهم فى العالم العربى وحيثما كان هناك عرب فى العالم، عبر شاشة قناة «25» الفضائية، وكان بصحبتها هذا الشاب الذى عرفنا أن اسمه «عبده»، فى «بلاتوه» بمكونات مطبخ حقيقى مما يوجد فى ملايين البيوت المصرية الشعبية البسيطة، وهى «الست غالية» التى تقدم برنامج طهى فريد يقدم الوجبات الشعبية المصرية الشهية بتنوع لافت، ومن مواد ليست غالية الثمن كلها من البيئة المصرية، وميسرة لملايين البسطاء وغير البسطاء، حتى أنها تستطيع إعداد وجبة كاملة منوعة لا تتكلف أكثر من عشرين جنيها لأسرة كاملة متعددة الأفراد.

 

فى هذه الحلقة قدمت الست غالية «وليمة» كاملة من السمك الذى يبدأ سعره من عشرة جنيهات للكيلو، صنعت منه «جِزلا متبلة بالثوم والكمون والليمون اكتسب بالقلى لونا ذهبيا ساحرا، كما صنعت شوربة «سى فود» جذابة البخار والعبق، إضافة لأرز «أحمر» مفلفل، وسلاطة من مبشور الجزر وأوراق الجرجير الريان، والحلو مهلبية. والحسبة كلها لاتتجاوز ثلاثين جنيها لوجبة هنية تكفى عائلة مصرية أو جزائرية أو ليبية أو عراقية أو من أى قطر عربى يتصل منه مشاهدو البرنامج الكثيرون، فى ظاهرة عروبية صادقة عابرة للأقطار. وكان «عبده» هو ضيف شرف الحلقة، أتت به الست غالية من منطقة «الوراق» التى تسكنها، بعدما ألحَّ عليها بلغة الإشارة والهمهمات أن تحقق له أمنية حياته: أن يظهر فى التليفزيون!

 

تابعت الحلقة بشغف كما أتابع حلقات هذا البرنامج منذ شهور عديدة، ليس فقط لأننى أحب برامج الطهو، ولكن لأن هذا البرنامج اكتشاف لكنز مصرى مطمور، ومن الغريب أن هذا البرنامج لفت انتباه الإعلام العالمى دون أن يلقى من إعلامنا مثل هذا الاهتمام، وهذا مفهوم، فى نطاق التسطيح الذى يروجه الإعلام المصرى فى معظمه، متصورا أنه بمكلماته يذهب إلى العمق، بينما العمق الحقيقى هنا، فى مطبخ هذه السيدة المصرية البسيطة، التى تمثل غالبية شعبنا، وتختزن فى ذاكرتها أصالة جذورنا التى تعكسها ليس فقط وصفات مطبخها العبقرى فى اقتصاده وبراعته، ولكن أيضا فى تلك الأمثال الشعبية التى تنثرها فى حديثها الجميل الحكيم الذكى الطيب.

 

عندما تعرفت على هذا البرنامج، كان رد فعله داخلى عالما بحاله، ارتددت فيه إلى طفولتى ويفاعى واللقمة الطيبة التى كنت آكلها من يد أمى التى كانت طاهية ماهرة حلوة النفس بشكل يتجاوز شهادتى الشخصية، وعدت إلى جذور الشخصية المصرية الطيبة الفنانة الودود المتسامحة الصبور الخلاقة، الذكية، الوسطية، المعتدلة فى دينها ودنياها. إنه عالم الأصول المصرية الذى تشكله قيم وقناعات شعب عريق، بكل أطيافه ومكوناته، من فقراء وأغنياء، مسلمين وأقباط، ضمهم جميعا هذا الوادى، المنبسطة أرضه والمعتدل مناخه، والضحوك شعبه برغم كل النوائب. وهو عالم تتهدَّده هجمات شاذة متطرفة المنطلقات والمقاصد، وغبية الأفق ومدمرة لأبهى مافينا من رحابةٍ بشريةٍ عَطوف، وغنىً إنسانيٍ حلو.

 

كانت الست غالية كما عهدتها، طيبة ذكية ماهرة لماحة، خزانة حضارة مصرية مما لاتزال تحتفظ بها أحياؤنا الشعبية، ومنها حى «الوراق» الذى جاءت منه، وأحضرت معها «عبده»، «البركة» الذى لم يكن له من أمنية فى عالمه إلا أن يظهر معها فى التليفزيون، وهو ملمح حضارى أكيد أبرهن على رقيه من واقع خبرتى العملية كطبيب نفسى سابق وكشخص جاب كثيرا من أطراف العالم، ففى البلدان «المتقدمة» نادرا ما تقابل شخصا معوقا فى الشارع أو فى الحياة العامة هناك، فمثله يتم نفيه من المجتمع تحت لافتة «الرعاية» و«المتطلبات الخاصة» فى ملاجئ ومصحات هى القسوة النفسية عينها، مهما كانت مدججة بأدوات العناية الحديثة! وفى مثل هذه المجتمعات «المتقدمة» التى عشت فى واحد منها سنين، ما أن يصرخ مكلوم من هؤلاء المعاقين بدنيا أو عقليا أو نفسيا، حتى يختفى فى غضون دقائق! إذ تأتى عربة إسعاف تحمله إلى مراعى الوأد والعزلة والبرود الإنسانى، فلا أهل ولا صحبة ولا معارف. أما هنا، فعبده يكفله أشقاؤه وأهله، ويرحب به جيرانه وأبناء الحى على اعتباره «بركة» يكرمهم الله بإكرامها، ويالها من بركة دعوات بالخير فاض بها «عبده» الذى لاينطق ولا تطيعه إعاقة أصابعه، على المتصلين وعلى مصر كلها فى هذه الحلقة النادرة فى قناة 25 الأشد ندرة.

 

قناة تعتمد على الشباب بالفعل لا بالكلام عن الشباب، وتتخذ موقفا عادلا ومستقيما مما يحدث فى مصر، وبرغم الاعتداء الغاشم على مقرها ومذيعتها على الهواء فى «هوجة ماسبيرو»، إلا أنها لم تدَّع بطولة ولم تركب موجة، وظلت رابطة على جأش الشعور بالمسئولية تجاه مصر وجيشها برغم مداهمة الشرطة العسكرية لها وقت الهوجة، لهذا بحثت عمن يكون وراء هذه القناة، ووجدت أن مؤسسها هو محمد جوهر، إعلامى ضليع، وله مآثر إعلامية منها لمحة عرض طوابير الأسرى الإسرائيليين وأياديهم على رءوسهم، وهى اللقطة التى هزت الكيان الصهيونى ومنحتنا نفحة ثقة فى قوتنا وعدالة حقنا. كما أنه من نبَّه المتغافلين إلى مبادرات الإعلام المصرى فى إحياء قضايا التحرر العربى، وأشار إلى ابن مصر البار يوسف إدريس ورسائله الصحفية من قلب معارك التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى، كنموذج للمثقف الأديب الثائر والإعلامى المناضل.

 

فى هذه الفترة الحرجة من عمر مصر، يتبدَّى إعداد الطعام على طريقة الست غالية وما تمثله، نوعا من الاحتفال الإنسانى فى إعدادها لأطباقها التى «تفتح النفس»، إضافة لتفتيح نوافذ المودة وأبواب الخروج من ضيق الحسابات السياسية والاجتماعية المتشنجة. فهذه السيدة الشعبية البسيطة تومئ إلى إشراقات سياسية واجتماعية مهمة دون أن تتكلم فى السياسة، لأن كلامها موزون بميزان الشعور بالمسئولية فى الكلام، بلا إفراط ولا تفريط. ولا يحركها إلا الميل الفطرى إلى الحق، لا إغواء الاستحواذ على القوة الذى صار شيطان كثيرين من فرقاء لحظتنا المصرية الراهنة.

 

لقد كان تعليق الست غالية على اشتباكات المعتصمين أمام ماسبيرو كلمتين هما «نصبر شوية»، وبالطبع لم تكن النصيحة موجهة للمعتدين على الاعتصام فهؤلاء ليسوا فى وارد قبول نصيحة بالصبر لأنهم لايمتلكون حرية الاندفاع أو الصبر فهم على الأرجح من أدوات «الطرف الثالث»، بل النصيحة موجهة كما فهمْتُها للمعتصمين الذين يتعجلون تحقيق مطالب يمكن أن تكون صحيحة وعادلة، ويشوهها التعجل، بل يتيح لخصومها وخصوم المطالبين بها تبرير العدوان عليها وعليهم.

 

شىء شديد الأهمية أيضا فى مجال الاقتصاد السياسى ينطق به مطبخ الست غالية دون أن تكون سياسية أو خبيرة اقتصاد، وهو أنها تستخدم مواد كلها مصرية من منتجات أرضنا الزراعية، ويلفتنا إلى أهمية الزراعة التى ذبحها وذبح فلاحيها فسدة النظام الساقط، فمنتجات الغذاء الزراعية المصرية، والتى تتحول إلى أطباق شهية فى متناول البسطاء وغير البسطاء فى هذا المطبخ الطيب العريق، إنما تشير إلى بديهة نبيهة فى ضمان حد الأمان فى أحد أهم احتياجات الإنسان الأساسية، وهو الغذاء، الذى يمثل مع الأمن قاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية تبعا للعالم النفسى «ابراهام ماسلو» ونظريته التى بلورها كتابه «التحفيز والشخصية» المنشور عام 1954، وهى النظرية التى قالت بأن الإنسان لابد له من احتياجات أساسية بإشباعها يتحفز للصعود فى مدارج الرقى، وبدونها يهبط بإنسانيته ومجتمعه، ويمثل الغذاء والأمن أهم مكونات قاعدة هرم هذه الاحتياجات.

 

مطبخ الست غالية نموذج عملى يقول بأننا نستطيع امتلاك حافز النهوض الأساسى باعتمادنا على أنفسنا وتوفير غذائنا من أرضنا، وهى رؤية تترافق مع حدث لافت فى مجال الاقتصاد هو تحقيق قطاع الزراعة المصرية لنمو قدره 3.1 فى الربع الأول من العام الجارى، متفوقا على كل قطاعات الاقتصاد الأخرى، وبرغم اضطراب الأحوال المصرية فى هذه الفترة. وهذا يؤكد على أن سليقة وغريزة البشر تعمل ذاتيا فى اتجاه البديهى والأساسى برغم كل ما نراه من «عك» سياسى فى مصر الآن. ولعل هذا ينبه إلى الأهمية القصوى لبعث الزراعة المصرية كقضية «أمن قومى» على رأس سلم أولوياتنا، وبأنه لا نهضة إلا بتحقيق عنصرى كفاية الغذاء وكفاءة الأمن. وهذه لمحة مستوحاة من براعة وإتاحة وعبق أطباق أستاذة الاقتصاد السياسى الاجتماعى النفسى الحضارى المصرى، ابنة حى الوراق الشعبى البسيطة: الست غالية!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .