أحلام كاتب متشكك - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 3:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام كاتب متشكك

نشر فى : السبت 2 أبريل 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : السبت 2 أبريل 2022 - 8:45 م

تراودنى شكوكٌ عجيبة، بعد أكثر من ثلاثين عاما من الكتابة، فى قدرة الألفاظ على التعبير بالضبط عما أريد، وعما أشعر. لا أقصد معنى اللفظ التقريرى المباشر اللازم للفهم، ولكنى أعنى طاقته التعبيرية، حمولته الانفعالية، معناه ومغزاه الخاص، ومدى مطابقته للحالة والشعور.
خذ مثلا كلمة «حب» أو «غرام»، هذه الحروف هل تجسد حقا ما نشعر به ويملك علينا حياتنا كلها؟ كيف لهذه الحروف تلك الطاقة العاطفية المتفردة؟ لقد صارت الكلمة عادية من كثرة استخدامها، صارت صوتا فارغا يدل على كل حالة، تحول السحر إلى مصطلح علمى.
نحتاج بالقطع إلى اللغة فى شكلها التقريرى الذى يسير الحياة، ويمنحها بعض الثبات، ستكون كارثة لو تبادلت الأشياء مسمياتها فى صباح اليوم التالى، نحتاج إلى أرض اللغة والمصطلح، ولكن ذلك ليس منطق الكتابة الفنية.
الفن نفسه تجربة فردية خاصة أهم من الواقع؛ لأنه الواقع مضافا إليه ذات الفنان، وموهبته الخاصة، فكيف يقنع فن الكتابة بالمصطلح؟ وكيف يستريح إلى العادى والمنتهك بكثرة الاستعمال؟ وكيف تضيق المسافة بين اللغة كوسيط شائع، وبين تجربة الفن كصوت خاص؟
انظر إلى فنون أخرى، بخلاف الكتابة، ولاحظ كيف اصطنعت وسيطا يناسب رحابة التجربة الفنية، فصارت الثورة بقعة حمراء فى لوحة، وصارت النغمة الغامضة تجريدا يناسب تجريد الامتلاء بشعور غامض، انظر كيف تستوعب أصوات الموسيقى وإيقاعاتها توترَ مؤلفها، بل لعلها تزيد عليه، فتترك مساحات هائلة لتأويل افتتاحية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن: ضربات القدر هى أم لحظة مواجهة الذات أم إرادة تتمرد على خالقها أم....؟
لطالما تمنيت أن أنفعل، فأذهب إلى البيانو، أعزف من الذات إلى الآلة دون أن أفكر، شعورى غامض ومحير، ولكنه حاضر ومكتسح، النغمة تختار مقامها وسلمها، تجريد يتشكل فى تجريد، أسمع النغمة فأعرف نفسى، قبل أن يسمعنى الآخرون فيعرفوننى، هذا سحر خالص، ملامسة للأبدية.
انظر كيف حاول الشعر أن يعيد اكتشاف اللغة، إنه ثورة الكتابة على التقرير والمصطلح، علاقة جديدة تهزم علم التشريح، الذى يخصص للقلب فصلا، ويجعل للعيون فصلا، فيستردهما الأبنودى، ويصنع منهما مجاز «عيون القلب».
هنا لغة جديدة كاملة، رجل يرى ما لا يراه غيره، لون يخص هذه اللوحة وحدها، الفن يخصخص اللون لصالحه، ليس صحيحا أنه اللون الأصفر الطليق المبتذل والشائع فوق باليتة نائمة، لقد صار اللون الأصفر الخاص بهذه اللوحة وحدها، ومعناه ووظيفته ودلالالته وحضوره يتغير إذا ظهر فى لوحة أخرى.
فطن الشعر إلى عجز اللغة كمادة للفن، إلا إذا خلقت من جديد، وإلا إذا صارت «لغة خاصة» بالفنان، وكأن أحدا لم يستخدمها من قبل.
الشاعر (عبدالفتاح مصطفى) هو الذى قال بوضوح: «شوية إنى أقولك يا حبيبي/ يا ريت فيه كلمة أكتر من حبيبى»، والشاعر (فؤاد حداد) هو الذى أعاد بناء الحواس لكى تستوعب مشاعره، فقال: «يا ريتنى أعمى أشربك باللمس»، والشاعر (سيد حجاب) هو الذى جعل الحكمة جميلة كسؤال: «يا ترى اللى بيعيش الزمن إحنا/ ولا الزمن هوه اللى بيعيشنا؟»، والشاعر (الأبنودى) هو الذى عرف الفارق بين «لولا» و«يا لولا»، فاختار الثانية لتحمل شوقا وحنينا على قدر مرارة المنفى: «يا لولا دقة إيديكى ما انطرق بابي/ طول عمرى عارى البدن وانتى جلبابى».
نعرف هذه الكلمات المنفردة، بل ونستخدمها فى حياتنا، ولكن من قال إنها صارت نفس الكلمات عندما سكنت أبيات الشاعر؟ هى نفسها، ولكنها ليست هى، وهذا هو بالضبط معنى الفن: مادة نعرفها لا تصبح نفس المادة عندما يشكلها الفنان.
إنها نفس بيوت المدينة التى نمر بها يوميا، ولكنها ليست هى بيوت المدينة بعيون محمد خان، وسعيد شيمى، الفن فى الفنان وليس فى المادة ولا فى اللغة، الفن ليس فى الحجر، وإنما فى ضربة الإزميل على الحجر، الفن فى «الطريقة» التى يُعاد بها اكتشاف مادة الحياة ولغتها وأصواتها، سؤال الفن الأهم هو: كيف تقول؟ وليس: ماذا تقول؟
فى القصة والرواية نحتاج أيضا إلى لغة فنية، ليست المسألة فى لغة محكية عامية، أو فى لغة فصحى، وإنما فى أن تكون اللغة فنية ومناسبة، أن تخرج من النص، لا أن تهبط عليه، شعرية إذا استلزم الأمر، وعادية إذا تطلب السرد، نفس حكاية اللون الأصفر الذى يخص اللوحة بعينها، والذى خرج من دائرة المشاع، إلى خصوصية التجربة والمعنى.
أضرب دوما مثلا بقصة قصيرة ليوسف إدريس عن رجل بائس تعوَّد أن يبيع دمه، فصارت «مهنة»، القصة لم تحمل اسم «مهنة» أو «وظيفة» أو «شغل»، وإنما «شغلانة»، هذه هى الكلمة الفنية التى تعبِر بالضبط عن معنى تلك الدائرة التى دخلها هذا البائس، وهذا هو اللفظ الذى يخص التجربة، اللون الأصفر وقد عاد أسيرا ليخدم فنانا ولوحة.
فى المقال نحتاج إلى استخدام لغة شائعة، نريد الإبانة والإفهام، ولكننا نطمح إلى خصوصية لا تقنع بالعادى والمكرر، ألفاظ كثيرة، وتعبيرات أكثر، كانت تعنى أشياء، فقدتها بعد أن صارت كليشيهات، كل رجل «صار قيمة وقامة»، لا أحد يتوقف أمام تعبيرات متداولة، صارت ثرثرة سهلة سمجة، حولت البشر إلى ببغاوات، وجعلت من الكلمات ظواهر صوتية.
المقال النقدى، والنقد عموما، يعيد تعريف المصطلحات، ويكشف تناقضاتها، ويقترح تعبيراتٍ جديدة، نتسلم مصطلحات اكتسبت هيبة وحصانة، ويتورط البعض أحيانا فى وضع نقطة فى آخر سطر النقد، مع أنه لا توجد نقطة فى آخر سطر الفن.
ما هذه المصطلحات العجيبة التى تفترض موت الناقد أو الكاتب؟ وما هذا الموت الذى يلاحق نصوصا هى حياة أبقى من مؤلفها؟ وكيف يموت الكاتب ونصه يدل عليه حتى لو لم نعرف اسما لصاحبه؟
أحلم بإعادة اكتشاف معنى اللغة ومعنى الفن من جديد.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات