عن الأجور.. حكم المحكمة أم حكم القوى؟ - سلمى حسين - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الأجور.. حكم المحكمة أم حكم القوى؟

نشر فى : الإثنين 3 مايو 2010 - 10:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 3 مايو 2010 - 10:30 ص

 عندما تحدث محمد قاسم، صاحب مصانع الملابس الجاهزة عن هجر العمال للمصانع من أجل العمل على توك توك، تحدث عن ظاهرة قدرها بخمسين ألف عامل. بعدها بأسابيع قليلة، كان عبدالله، الذى لم يلتق به قط، قد استقال من مصنع فى القاهرة، لتحل محله سيدة بأجر أقل من أجره. بينما ذهب هو ليشترى توك توك بالتقسيط وبالسلف.

يقول عبدالله ذو الثلاثين من عمره، إن أجره فى المصنع لا يكفى لإطعام أسرته. كما يشكو عبدالله من طول ساعات العمل الإضافى الإجبارى فى المصنع والوقفة طوال اليوم على رجليه، بلا وجبة. «وفى مقابل إيه... فتافيت». وهكذا صار شائعا ترك العمال للمصانع. كما لوحظ ارتفاع كبير فى معدلات الغياب بين العاملين.

يفسر محمد قاسم تلك الظواهر بأنها ناتجة عن «دلع العاملين»، قائلا إنها ظاهرة نفسية بحتة، بحسب بحث ميدانى متخصص قامت به خبيرة أجنبية لحساب اتحاد الصناعات. باختصار يلقى أصحاب المصانع باللوم على العمال. بينما لمدير مكتب منظمة العمل الدولية فى القاهرة ــ يوسف القريوطى ــ تفسير آخر لتلك الظواهر. فهو يرى أن العلاقة فى مصر بين صاحب العمل والعاملين لديه تحتاج إلى إعادة نظر، ملقيا اللوم على غياب التفاوض الجماعى. وهكذا تسود أوضاع يفرضها صاحب العمل.

ومن هذه الأوضاع، فرض أجر لا يتلاءم مع مستلزمات الحياة الأساسية. وهذا فى غياب حد أدنى واقعى للأجر. وهو أول أجر يحصل عليه كل من يلتحق بعمل ما لأول مرة. فمن المفترض فى هذا الأجر أن يكون على الأقل مساويا للإنفاق اللازم للبقاء فوق خط الفقر.

وتشير دراسة للبنك الدولى عن الفقر فى مصر أن نصف الفقراء فقرا مدقعا هم ممن يعملون بأجر! تذكرت عبدالله عندما راج الحديث مؤخرا عن الحد الأدنى للأجر داخل أروقة الحزب الوطنى والحكومة، حيث تدور عدة دراسات قام بها متخصصون من رحم الحزب عن مبالغ دون 500 جنيه كتقديرات للحد الأدنى للأجر.
وإزاء تلك الدراسات، تعددت الأسباب والرفض واحد.

فالحكومة من جانبها ترفض تعديل الحد الأدنى للأجر. لأن فى رقبتها 6 ملايين موظف بالجهاز الإدارى والمحليات، تعمل نسبة كبيرة منهم بأجر تحت خط الفقر. وعليه، سيؤدى فرض حد أدنى للأجر إلى مضاعفة عبء الأجور فى الموازنة (وفق تقدير أمنية حلمى، كبيرة الباحثين بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية). بالإضافة إلى زيادة التضخم (وهى آثار جدير بنا دراسة تجارب الدول الأخرى لتجنبها). وتتحجج الحكومة بأن الكثير من الفقراء أصلا هم ممن يعملون بلا أجر (فى أشغال عائلية، خاصة فى الريف). وبالتالى فلن يؤدى فرض حد أدنى للأجر إلى خفض كبير فى أعداد الفقراء. (يعنى هو إما قضاء كامل على الفقر وإلا فلا؟).

أما القطاع الخاص، فهو يرفض الفكرة بدعوى أنها ستؤدى إلى رفع تكلفة المنتجات المصرية. كما أن إنتاجية العامل المصرى ضعيفة فلا يستحق زيادة فى أجره. (يرد سمير رضوان خبير اقتصادات العمل على النقطتين بالبرهان على أن الزيادة فى الأجر تؤدى إلى قفزات فى الإنتاجية). رفض كبار رجالات الصناعة فى مصر مناقشة المبدأ، عندما طرح لأول مرة داخل الغرف المغلقة. كان ذلك منذ أربع سنين. وبإيمان كإيمان الأولين، لم يتزعزع موقفهم.

لا يوجد تقدير دقيق للحد الأدنى فى القطاع الخاص. إلا أنهم رفضوا فى 2006 تحديده بـ214 جنيها مصريا. وهو المبلغ الذى يشترى نفس الحاجات فى 2006، التى كان يشتريها مبلغ 35 جنيها فى الثمانينيات، وفقا لحسابات ورقة قدمها المركز المصرى للأبحاث الاقتصادية فى 2006، عن الموضوع. أما الأجر الأدنى عمليا فى الحكومة حاليا فهو نحو 200 جنيه. وكان يمثل 27% من متوسط الأجور الشهرية للعاملين فى الحكومة والقطاع العام. هذه النسبة تعتبر منخفضة جدا بالمقارنة بما هو سائد فى العالم. كما أن المبلغ المقابل فى 2010 بالتأكيد زاد بسبب معدلات تضخم فلكية فى 2008، 2009 وإلى الآن.

هذا عن مصر.. فماذا عن سائر دول العالم؟
فى العالم أيضا، كثر الحديث مؤخرا عن الحد الأدنى للأجر. حيث عاد الاحترام لمبدأ كان قد فقد بريقه مع سيادة الفكر الرأسمالى الحديث. هذا البعث هو من توابع الهزات الفكرية التى ألمت بالفكر الرأسمالى، نتيجة الكساد التى جرت الولايات المتحدة العالم إليه.

وعليه، نجد الحد الأدنى للأجر يعود إلى لب السياسة الاقتصادية، كأداة لعلاج الكساد الاقتصادى.
فعقب الكساد العظيم، يذكر عبدالفتاح الجبالى فى كراسة إستراتيجية صدرت هذا الأسبوع، أن صندوق النقد الدولى لم يعد يصر على سقف لنسبة الأجور فى الإنفاق العام للدولة. كما فرضت بعض الدول زيادة الحد الأدنى للأجر بالقانون، منها إنجلترا، البرازيل، أيرلندا، والنمسا. كما تتواصل النقاشات حول تقنين الزيادة فى ألمانيا والسويد. وفى حالات أخرى كانت الزيادة بدون قانون، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، كما يلحظ تقرير الأجور فى العالم لعام 2009، الصادر منذ شهرين. وتشكل تلك الإجراءات انقلابا فكريا على ما كان سائدا من قبل.

فخلال كل الانكماشات الاقتصادية السابقة، سادت الفكرة التالية: أن أى زيادة فى الحد الأدنى للأجر ستؤدى إلى زيادة تكلفة العمل ومن ثم تباطؤ التوظيف وزيادة البطالة. فلطالما بقى الحد الأدنى للأجر شرا، يعيق آليات السوق التى من شأنها أن تتوصل للأجر الأمثل. أما اليوم، وعلى النقيض، فإن الأزمة الحالية، شهدت عددا كبيرا من الدول ترفع الحد الأدنى للأجر، كوسيلة لعلاج الكساد.

فيرصد تقرير الأجور فى العالم أنه فى 2008، رفعت 43 دولة على مستوى العالم (نصف العينة التى درسها التقرير) الحد الأدنى للأجر لديها، بنسبة تفوق نسبة التضخم، أى زادت الأجور زيادة حقيقية (هذا غير تلك التى رفعتها بمعدل أقل). فزيادة السيولة فى أيدى الطبقات الفقيرة والداخلين الجدد إلى سوق العمل هى أفضل وسيلة لتنشيط حركة البيع والشراء، ومن ثم دفع عجلة الإنتاج المحلى، وبالنتيجة زيادة فرص العمل.

الحد الأدنى للأجر هو أداة موجودة فى العالم كله تقريبا، فى كل الدول وفى كل المناطق، باستثناء الشرق الأوسط. (الملاحظة مأخوذة من نفس التقرير). والأكثر شيوعا هو أن يتحدد الحد الأدنى للأجر عند مستوى 40% من متوسط الأجور الشهرية فى المجتمع. وهو إذا ما طبق فى مصر فلاشك أنه سيكون أكبر كثيرا عن الحد الأدنى المقترح من وزير التنمية، المحسوب على أساس خط الفقر (450 جنيها فى 2008)، نتيجة للتفاوت الكبير بين الدخول. حيث تقدر نسبة أعلى أجر إلى أدنى أجر بأكثر من 25 ضعفا فى مصر، فى حين أنه فى دولة كالسويد لا تزيد على خمسة أضعاف.

وفى مصر، كان آخر تعديل للحد الأدنى للأجر بقانون، فى الثمانينيات. وما تلاه من تعديلات كانت بقرارات لا قوانين. ولم تكن تلك التعديلات نتاج تفاوض بين أطراف العملية الإنتاجية ــ أصحاب الأعمال والعاملين ــ والدولة كوسيط، كما شهدت أفضل التجارب الدولية. لذا لم تكن التعديلات متواكبة مع زيادات نفقات المعيشة. واليوم، بعد أن حكمت المحكمة حضوريا على الحكومة بوضع حد أدنى جديد للأجور، لن يكون الوضع بأفضل مما كان عليه.

فمنظمة العمل الدولية لاحظت من دراسة مقارنة بين أكثر من 60 دولة، أنه عندما يتحدد الحد الأدنى للأجر كنتاج حوار اجتماعى فإنه عادة ما يكون قابلا للتعديل بشكل أكثر انتظاما وأكثر توافقا مع الزيادات فى الإنتاجية كما يراعى قدرة الشركات على الدفع، مع المحافظة على القدرة الشرائية للعاملين.

وبالتطبيق على مصر، إليكم أطراف الحوار المجتمعى : مجلس أعلى للأجور (معطل منذ سبع سنوات)، وقيادات نقابية تدين للحكومة بأكثر مما تدين للعمال، ورجال أعمال يرون أن المشكلة تكمن فى دلع العمال، وأخيرا دولة غير قادرة ــ أو غير راغبة ــ فى الضغط عليهم ليجلسوا مع عمالهم على مائدة التفاوض. فما شكل الحد الأدنى للأجر الذى سينتج عن هذه التركيبة؟ لعل زيادة أعداد التوك التوك فى العام المقبل تجيب عن السؤال.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات