«بصورة مفاجئة».. الفقد استعادة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بصورة مفاجئة».. الفقد استعادة

نشر فى : السبت 3 يونيو 2023 - 9:55 م | آخر تحديث : السبت 3 يونيو 2023 - 9:55 م

أفكر أحيانا فى أن القصة القصيرة هى أقرب فنون النثر إلى الشعر، ليس فقط بمنطق تكثيف اللغة، واقتناص اللحظة المهمة، والمشاعر المراوغة، ولكن بمحاولة صنع نغمة موسيقية خاصة، وبإعادة اكتشاف العلاقات بين الأشياء، والخروج بمعانٍ جديدة. من هذا المزيج من ذات الكاتب، وطبيعة الأشياء، يخرج شىء جديد مفاجئ، مفتوح على دلالات بعدد القراء.

وصفتُ هذا الأثر المدهش يوما بأنه مثل شرارة خرجت من احتكاك حجرين، أو مثل لحظة انبهارنا باحتراق ورقة، أمام شعاع عدسة مجمّعة، امتصت نور الشمس.

وهذه المجموعة القصصية الصادرة عن دار الكتب خان، وعنوانها «بصورة مفاجئة»، لمؤلفها منتصر القفاش، نموذجية تماما فى إعادة اكتشاف العالم واللحظة والأشياء، وفى الانفتاح على دلالات كثيرة، خرجت من موقف بسيط، وفى إعادة الاعتبار للخيال وللأحلام، وفى البحث المستمر عما وراء الظاهر والمألوف.

فالحياة هناك فى الصناديق المغلقة، فى البحث، وليست فى الوصول، فى الرؤية بالعمق، وليست فى النظرة العابرة، فى أن تمتلك سرا، لا فى أن تعرف كل شىء.

بدا لى وكأن القفاش، وهو يلتقط تلك اللحظات، يحارب رتابة التكرار، وملل العادى، وسذاجة الوضوح، ليخرج أبطاله من دوامة العبث، والدوائر المفرغة، إلى كون متسع وفسيح. يمنحهم حياة إضافية، بعد أن فرمتهم ماكينة الزمن، وبعد أن فقدوا أسباب الدهشة.

تمتلك القصص بناء متماسكا ومتصلا، وتجمعها تيمة البحث وإعادة الاكتشاف: كل ما حولنا مهم، بشرط أن نعرف كيف نراه، وفى كل مكان كنز وفكرة، بشرط أن نؤمن بذلك، والحياة تتجدد باكتشاف المعنى، وليس بأى شىء آخر. لدينا معانٍ متكاثرة، قد نعيش أضعاف عمرنا، دون أن نجدها، وبالتالى، لا تموت الدهشة، ولا تنتهى المفاجأة. فقط علينا أن نبحث.

فى نصوص القفاش، التى أراها من أفضل سرديات 2023 القصيرة، استغلال أبسط موقف، وأقل شىء، وأضيق مكان، لتوسعة العالم، ولانفتاحه على أسرار لا حصر لها، وعبر أدوات كثيرة، مثل الذاكرة، والخيال، والأحلام وتفسيرها، واستعادة نظرة الطفل والصبى، بل إنه يستخدم أيضا التوهمات والأصوات التى لا يسمعها سوى صاحبها.

كل شىء يمكنه أن يوسع عالمك، ويقتل ملل الحياة وعاديتها، ولكن وفقا للطريقة، التى تتعامل بها مع الواقع. تظل الدنيا كما نعرفها، حتى تظهر مفاجأة ما، أو حتى نكتشف أمرا غريبا، فتسير شخصيات القصص وراءه.

قد تجد، وقد لا تجد، ولكنها تتذوق اللعبة الجديدة، وتتمسك بها، ولعلها ترى فى الوصول نهاية، فتخبئ السر، وتغلق الصناديق، وتسعد ببهجة التواطؤ، وتلتمس المعانى فى أحلام النوم، واليقظة، وفى التخيل الحر، لأن الواقع وحده لا يكفى.

هناك مواقف رسمت ببراعة آسرة تدعونا لإعادة تأمل فكرة «الفقد كاستعادة وكفرصة»، فالشخصيات لا تعتبر الفقد نهاية، بل إنه بداية للبحث، وبداية للحركة وللعمل، مما يشعرها بالحياة. «الفقد» ليس موتا، ولكنه حافز على استعادة الاهتمام من جديد، والخطأ الحقيقى فى قصص المجموعة هو أن تفقد الدهشة والاهتمام، أن يضيع منك شىء، فلا ترى أهمية للبحث عنه.

من مفاتيح الحكايات أيضا الاحتفاء بفكرة الشفرة، أو بالسر الذى يجب الاحتفاظ به، هنا لعبة تجدد نظرتنا للأمور، وتعطى حكاياتنا أهميتها وتفردها، رغم أنها قد لا تكون مهمة أو متفردة، وهنا أيضا خصوصية الذات، وشعور الإنسان بأنه يمتلك القفل والمفتاح، وأن لديه ما يمكن الاحتفاظ به، والدفاع عنه، وإخفائه عن العيون.

الأسرار فى النص ليست مهمة فى حد ذاتها، ولكن فى تلك الإثارة التى تصنعها، لتعطينا دافعا للبحث وللاكتشاف، واستعادة الشغف بالحياة. ولعل الحياة فى جوهرها ليست سوى بحث دائم عن أسرار لا تنتهى، من الميلاد حتى الممات.

فى الحكايات يتسع العالم برؤية الطفل للأشياء كمدافع ودبابات ومسدسات، وببحث الأسرة عن حصان الشطرنج المفقود، وبلعبة الحبر السرى فى كتابة رسائل الغرام، وبتحويل زلطة بائسة بعين الخيال إلى جوهرة، وبترجمة رغبة طفلة متوفاة إلى لوحات معلّقة، وباكتشاف رسائل تحتوى أسرارا من الماضى، وبالبحث عن صور قديمة لملاكم لا يتذكره أحد. يتسع العالم بتفسيرات أحلام الجدة، وبفتح الصناديق اختلاسا وتلصصا، ثم إعادتها إلى حالتها الأصلية، بالبحث عن قلب مفقود بألوان المحبة، بالعثور على يوميات مفقودة، ومحاولة فك شفرتها، باستعارة رؤية الجد المختلفة للاشياء وللأماكن وللتفاصيل.

حتى الأمر الغريب والمتوهم، يكسر الملل، ويستعيد دراما الحياة، فنبحث عن كنز مخبوء، أو عن سرّ يخص الآخرين، أو عن ملابس عجيبة تتآكل عندما نرتديها، أو عن صوت غامض فى الفضاء، لا يسمعه غيرنا، ولكنه لا يريد أن يتركنا، ولا نريد أن نتركه.

تنتهى كل قصة قصيرة عادة بلحظة تنوير واكتشاف، ولكن قصص منتصر القفاش، وصناديقه المغلقة، وشفرات رسائله، تنفتح على بدايات جديدة، فتجعل الاكتشاف مستمرا ومتصلا، وتزيل الفواصل بين الواقع الخشن، والخيال المحلّق، والحلم الملتبس.

مثلا: خيال الكلب متعدد الرءوس، وأحلام الجدة المستبصرة، يلتهمان الواقع، ويعبران الزمن، ويصلان إلى أجيال أخرى، بمنتهى البساطة والسهولة.

ورغم كثرة الكنوز والرسائل والصناديق، ورغم فوضى الأحلام والتوهمات، ورغم تزاحم الأشياء والأسرار والكنوز المخفية، إلا أن السرّ الحقيقى، والصندوق الأهم، هو الإنسان نفسه، لأنه يعيد اختراع الحياة كلما حاصره الملل، ويمدّه الفضول والحنين والحب، بمناجم لا تفنى من الشغف، ولأنه كتب عليه أن يبحث، حتى لو كانت الصناديق فارغة.

الفن والمعنى فى الفنان، وليس فى الأشياء، والتفاصيل لا قيمة لها فى ذاتها، ولكن فى العلاقات القائمة بينها، والقصة القصيرة الناضجة تفعل ذلك بامتياز، وتترك للقارئ أيضا مهمة البحث عن الأسرار فى داخل صناديقها.

فى قصة بعنوان «فى رؤية الأشياء»، يبحث أفراد الأسرة عن ساعة الجد، فلا يجدونها، ولكنهم لا يفقدون الأمل أبدا فى العثور عليها.
من يبحث، لم يخسر شيئا.
فالبحث وجود
والفقد استعادة للحياة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات