اللحظات الأخيرة للسفينة «نورماندي – تو» - محمد حسين - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللحظات الأخيرة للسفينة «نورماندي – تو»

نشر فى : السبت 4 يناير 2014 - 8:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 يناير 2014 - 1:34 م

بدعوة من المعلم حنفي شيخ «الصياديون» في السويس، أقيم مؤتمر شعبي حاشد واحتفالية لتدشين السفينة "نورماندي تو"، وهو ما يتزامن مع نقل ملكيتها إلى اثنين من المستثمرين الجدد.

هكذا قد يبدو الخبر "الآمن" الذي يبعث به مراسل صحفي محلي في 1957، لكن المشاهدة السينمائية توفر لنا فكرة تفصيلية أفضل عن هذا الحدث الكلاسيكي: مدام حنفي (أم حميدة) تستقر في حلق المسرح، تقدم نفسها قبل المعلم وتسلم قيادة الباخرة نورماندي إلى أصحابها الجدد، مع مداخلة ضرورية من المعلم حنفي شخصيا لتوضيح أنها "نورماندي- تو" لزوم الدقة التاريخية (حيث أن "نورماندي- ون" قد غرقت منذ زمن)، تعيش أم حميدة سيدة البحار، ثم يعيش البحر الأحمر المتوسط، والآن أيها الإخوان، المجتمعين في هذا الصيوان، من سالف العصر والأوان، يستلم حسن أفندي القبطان وابن حميدو أفندي القرصان المفتاح الذهبي للباخرة العظيمة؛ "نورماندي- تو".

تو.. تو..تو..تو....

ينغمس الجميع في الرقص على النغمة الارتجالية، ويجتهد المعلم حنفي في تحريك كرشه العظيم مستخدما أروع آليات التوافق العضلي العصبي (بتكنيك يظل سريا حتى تكتشفه راقصة أوكرانية بعدها بأكثر من نصف قرن)، دافعا الجميع، نحن والمجتمعين في الصيوان، لتجاهل حقيقة أنه هو الشرير الحقيقي في هذه الحكاية، وليس الباز أفندي وعصابته، أو حتى زوجته الطاغية.

تعرفوا على الريس حنفي: شيخ صيادين لم نره يمارس الصيد أبدا، وبينما يحتفظ بملابسه التقليدية، يمارس السمسرة والنصب على الشباب الناهض، ويستثمر ابنتيه في المزيد من الأعمال الجيدة. الصغرى عزيزة يقايض بها مع الباز أفندي الذي يضمن له عقد العمل مع العصابة الأجنبية، ظاهريا مهمته معهم هي خادم سفاري، في شخصية أقرب لرئيس الحمالين الأبله بمغامرات طرزان، لكنه في الحقيقة مجرد واجهة لعمليات التهريب. ابنته الكبرى حميدة يعتبرها تهمة سماوية ويسعى (حرفيا) لإلصاقها بغريب خفيف العقل تعرف إليه منذ ساعات، ونصب عليه لتوه في صفقة السفينة. عملية التزويج نفسها كان يتغاضى فيها عن محاولة ابنته للتقرب من إنسان الغاب طويل الناب.

وضمن حديثه المسموم على المسرح، يرسل بشفرات خفية إلى الجماعة الإرهابية التي تم حظرها للتو.. ألم يقل "أيها الإخوان"؟ هذا هو مفتاح الرسالة، وعلينا البحث عن باقي العناصر. إصراره وضغطه المتكرر على كلمة "تو" بالتأكيد هو جزء من الرسائل المشفرة.

لكننا لا نكاد نرى الشر في شخصية الريس حنفي. نتذكر فقط كلمته التي لا تنزل الأرض أبدا، ولكنها تنزل بعد تحذير متبطن في نداء الزوجة القوية العفية. يكون هذا كافيا لنعتبره جناحا ديموقراطيا داخل تلك العائلة البائسة، التخبط والأداء المرتعش نعتبره محاولة منه للمقاومة وسط الشر الكلاسيكي المحيط به.

يستريح الناس للنماذج، بمجرد رؤية الراقصة لاتانيا والعصابة ستُحيلك الذاكرة إلى عشرات الأدوار التي كانوا فيها أشرارا، هم أشرار طبيعيون والأسماء الأجنبية تضفي فقط بعدا دوليا على المؤامرة، ويعاونهم الشرير السينمائي الأصلي الباز أفندي ي دور محامي الشيطان (ساقط توجيهية، وكيل أعمال وسمسار مراكب وقباني وبالعكس، وعليه ربطة كرافتة ترد الروح حسب ما يعتقده الريس حنفي والمزيد من السيدات المتشوقات إلى الأناقة الغربية).

من الطبيعي أن يأتي الأشرار من الخارج، هذا مريح إضافة إلى أنه في الحقيقة دورهم الطبيعي، ومعهم الشرير الوسيط، ولكن ضررهم لا يُقارن بالشرير الأبله الذي يُضحكنا. تخيل مهمة هؤلاء الأشرار بدون حركة كرش الريس حنفي، والدويتو الخاضع أمام زوجته، سيكون من المستحيل إتمام "العملية بطن الزير"، بدون حركات إلهاء واستعباط.

لكن مشهد تدشين السفينة عابرة البحار يكشف لنا عن مستوى آخر من الإلهاء: تم تصوير المشهد من 3 زوايا، الزاوية اليسرى تعتني بتقديم مثلث الإغراء الذي تسيطر عليه عزيزة (في مظهر مارلين- مونروي صاعق بضفائر مراهقة قصيرة)، الزاوية اليمنى من بطولة ثنائي العبط ابن حميدو وحميدة اللذين يرتجلان في أداء صامت ينتمي إلى كوكب آخر. الإلهاء بالإغراء والعبط.

أما الزاوية الوسطى فتنقسم إلى مقاسين، مقاس متوسط لزوم تفخيم مظهر المتحدثة الرسمية باسم عائلة الريس حنفي، ومقاس آخر واسع يُظهر هؤلاء المجتمعين في الصيوان من الخلف، ويقدمهم كمجموعة متنوعة من الأقفاء (جمع قفا)، فهذا قفا بلدي، قفا عامل، قفا أفندي.. وهكذا (كلهم صيادون في النهاية)، مهمتهم هي التصفيق في كل وقفة بالخطاب، والرقص على نغمة "تو"، كما يتطوع أحد الهتيفة مرتين بتحية العائلة التي تعتلي المسرح.

يبدو «الصياديون» وكأنهم سبب آخر للضحك، أو البؤس في الحقيقة، لكن دعونا نتذكر أن سمعة "نورماندي – تو" كانت معروفة للبلد كلها، بمن فيهم المستثمرون الغريبون، حتى أن حسن أفندي عديم الخبرة كاد يفككها على رصيف الميناء. قد يكون «للصياديون» دور في عملية النصب، لكن الحقيقة أن 20 جنيها هو مبلغ يستحيل توزيعه على هذا الجمع، وهم يعرفون هذا، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنهم في الحقيقة يتماهون مع هذه البلاهة المؤسسية المحيطة بهم، وأن دافعهم هو حبهم للاحتفال والضحك من وقت لآخر، أيضا الفرجة على الجميلة الشقراء، ولن يضر الهتاف لمجاملة كبراء البلد.

لكننا، وإياهم، نعرف جميعا كيف انتهت الأمور:

تتجه مدام حنفي إلى السفينة "نورماندي – تو" وتدشنها بزجاجة كما تقتضي التقاليد البحرية العريقة، وتنزلق السفينة نحو المياه الهادئة، لتغرق في ثوان معدودة وتستقر في القاع. لا مفاجأة الآن.

في اليوم التالي، وفي مشهد لا نراه، يشترك الجمهور مع الريس حنفي في انتشال الغارقة، يبدون جادين كما تستدعي هذه الظروف السيئة، غاضبين لأنهم يتحملون عبء تنظيف الفوضى التي أحدثها هذا الشرير العبيط، وربما تكون هذه مقدمة، أو ترضية مؤقتة، حتى ظهور الأشرار الحقيقيين الذين تسببوا في كل تلك البلاهة.

لمشاهدة حفل تدشين السفينة "نورماندي- تو":

 

محمد حسين كاتب وصحفي
التعليقات