يوم ٢٢ فبراير من العام الماضى تحدث معمر القذافى للشعب الليبى عبر خطاب طويل عريض دخل به تاريخ الكوميديا السوداء وهو الذى قضى عمره كله فى ربوع الكوميديا الخضراء.. فى هذا الخطاب الذى حفل بما لذ وطاب من العجب العجاب كانت الرسالة واضحة ومباشرة للشعب الليبى: اخرجوا لتقتلوا الثوار وتبيدوهم وتتعقبوهم دار دار زنقة زنقة شبر شبر.. كانت دعوة الزعيم لشعبه لعرس دم فى حرب اهلية لا تبقى ولا تذر بحيث تفنى ليبيا ويبقى الزعيم الاخضر وعائلته جاثمين على السلطة ابد الدهر.
ولكن ما هى الا شهور معدودات حتى انتصر من اعتبرهم القذافى جرذان وخونة وعملاء للناتو وامريكا واسرائيل وتحول الزعيم الى ماض كريه ولقى ربه فى مشهد مأساوى وعاشت الأمة الليبية.
لقد انتحر القذافى سياسيا وأخلاقيا حين قرر أن يحتفظ بدفء السلطة عبر إحراق شعبه فى احتراب أهلى قبلى، حيث انقلب السحر على الساحر واتسعت رقعة الثورة الليبية وتعاظم الغضب حتى التهمت ناره القذافى ونظامه.
كان القذافى غبيا لأنه لم يستفد من درس مخلوع مصر حين نفذ محاولة بائسة يائسة للبقاء فى السلطة بدفع الأمور الى حرب أهلية يوم موقعة الجمل، وبدلا من أن تبتلع هذه المعركة الثورة، منحتها قوة على قوتها وأعادت لها عنفوانها فسقط مبارك غير مأسوف عليه.
لكن لماذا قفز خطاب القذافى إلى الذاكرة فجأة؟ والإجابة هى بورسعيد، ذلك أن السيد المشير الذى هو رئيس البلاد هذه الأيام رغم أنفه وأنفها، أدلى بتصريح من كلمات مقتضبة لا يختلف فى مضمونه عما جاء به مبارك والقذافى من قبل، حيث قال وهو يستقبل نجوم الأهلى العائدين من مجزرة بورسعيد فى مطار القاهرة إن الذين فعلوا ذلك من الشعب و«الشعب ساكت عليهم ليه» ولو دققت فى مضمون هذه العبارة القصيرة لن تجد اختلافا كبيرا بينه وبين مضمون خطاب القذافى الذى دعا فيه شعبه برجاله ونسائه وأطفاله لحمل السلاح للهجوم على باقى الشعب زنقة زنقة شبر شبر، لتطهير ليبيا المجد والكفاح من جرذان الثورة الخونة العملاء.
لقد خرج الشعب فى مختلف محافظات مصر ليرد على سؤال المشير «ساكتين عليهم ليه» وكان الجواب من كلمات بسيطة: دى مؤامرة ويسقط حكم العسكر وارحل والشعب يريد براءة بورسعيد.
ولا جديد ايضا هذه المرة، الشعب يظهر تحضره فى لحظة أراد حكامه فيها أن يخرجوا أحط وأبشع ما فيه من قيم البداوة والغباوة والهمجية.. الشعب قال كلمته: مصر لن تكون غابة ولن ترتد مجتمعا همجيا يحارب بعضه بعضا لكى يبقى ملك الغابة مستمتعا بسلطانه.
لقد دفع العالم أثمانا باهظة فى عصور الظلام لكى ينتقل من مجتمع الغابة إلى مجتمع الدولة عبر اختراع اسمه العقد الاجتماعى، الذى يتوافق فيه الأفراد على التنازل عن بعض من احتياجاتهم الطبيعية لكى يعيشوا تحت سلطة وحماية الدولة «التنين الرادع لجنوح وهمجية الأفراد كما رآها فلاسفة العقد الاجتماعى» ومن ثم فدور الدولة فى عصور الحضارة هو تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع وحمايتهم بعدلها وسلطتها، لا أن تؤلب الأفراد على بعضهم البعض، أو تدعو الشعب لمحاربة الشعب.
دور الدولة أن تحمى الشعب وتضمن له الحياة الآدمية، لا أن تحتمى فيه وتضمن بقاء سلطتها عبر ضرب الرعية ببعضها.