فى المكسيك يحدث التغيير عندما ينقسم الحزب الحاكم - بسمة قضماني - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 4:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى المكسيك يحدث التغيير عندما ينقسم الحزب الحاكم

نشر فى : الأربعاء 5 يناير 2011 - 9:50 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 يناير 2011 - 10:08 ص
قد يكون مجديا بالنسبة لأعضاء الحزب الوطنى الديمقراطى فى مصر، خاصة بعد انتخابات مجلس الشعب التى أُجريت فى نوفمبر الماضى، زيارة بلدان جربت حكم الحزب الواحد المهيمن لفترة طويلة من الزمن، ثم انتقلت إلى النظام السياسى الديمقراطى. وتُعتبر المكسيك واحدة من أهم تلك الدول. ويجب على قادة الحزب الوطنى وكذلك قادة أحزاب المعارضة، الاستفادة كثيرا من الدراسات المدققة لتاريخ المكسيك السياسى خلال القرن العشرين.

توجد الكثير من جوانب التشابه المدهشة بين مصر والمكسيك برغم أن الوضع فى المكسيك يتسم بدرجة أكبر من التطرف، حيث يبلغ مستوى التفاوت الاجتماعى هناك ضعف نظيره فى مصر، كما تبلغ مساحة مكسيكو سيتى (عاصمة المكسيك) ضعف مساحة القاهرة. وقبل عقد من الزمن، كان مستوى التلوث فى تلك المدينة التى كانت أكثر مدن العالم تلوثا ضعف نظيره فى القاهرة. والتلوث لم تخّف حدته فى مكسيكو سيتى منذ ذلك الحين، بل القاهرة هى التى لحقت بها وأصبحت منافسها الرئيسى فى درجات التلوث.

ومن الناحية السياسية، كانت المكسيك واحدة من الديكتاتوريات الناعمة فى أمريكا اللاتينية. فقد سمحت بالتعدد الحزبى وقدر من الحرية الصحافية، فضلا عن سهولة تكوين منظمات للمجتمع المدني. وحدثت عملية التحول إلى الديمقراطية هناك فى غضون فترة طويلة امتدت نحو 25 عاما، إلى أن أصبحت المكسيك ديمقراطية بحق فى عام 2000.

وقد سيطر الحزب الثورى المؤسسى الحاكم على السلطة فى المكسيك لمدة 71 عاما تحت مسميات متعاقبة. فقد تولى الحكم فى عام 1929، عبر التأييد الجماهيرى لخطابه الاشتراكى، وأسس جمهور أنصاره من بين الفقراء والطبقة الوسطى. وبمرور الأعوام، تحول إلى تحالف لشبكات تشمل الزعماء السياسيين المحليين، وكبار القادة العسكريين، والأحزاب السياسية الإقليمية. واستطاع الحزب دمج العمال والفلاحين فى النظام السياسى، عبر الادعاء بأنه الأداة الوحيدة القادرة على تلبية مطالبهم المتعلقة بالحقوق النقابية والإصلاح الزراعى. وكان المنهج العملى للحزب أقرب إلى آلة سياسية حضرية. وقوض محاولات تشكيل تحالفات طبقية أفقية أو تحالفات بين جماعات المصالح السياسية فى داخل الطبقات الدنيا، عن طريق تقديم الخدمات فى مقابل أصواتهم الانتخابية. ورغم توجهاته الثورية فقد غير الكثير منها كى يتعامل مع مختلف التحديات، مع حفاظه فى الوقت نفسه على قبضته على المجتمع، حتى أصبح مجردا من أى لون سياسى محدد.

 فبعدما كان فى الأصل ذا توجه اشتراكى، أصبحت سياساته وسطية بل حتى نيو ليبرالية، وسعى إلى دمج جميع قطاعات المجتمع فى برامجه. ومثل الإسفنج، حاول امتصاص المجتمع ومؤسساته المختلفة. وتَمَكَّن عن طريق استخدام هذه الإستراتيجية من الحفاظ على الاستقرار. وفى حقيقة الأمر، شهدت المكسيك القليل من فترات العنف الموسع والمنظم، ولم تحظ أية حركة ثورية بتأييد كبير، على الرغم من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة والضغوط الضخمة التى كان يعانيها الشعب.


وكان الحزب بمثابة القوة الأكبر بعد الرئيس، والذى قام عمليا بدور القائد للحزب. وقد تشكل الحزب وفقا للنموذج الهرمى، فكان يشبه الحزب الوطنى الديمقراطى فى مصر، وكان مجلسه التنفيذى يشبه كثيرا لجنة السياسات فى الحزب الوطنى.

وكانت الانتخابات تجرى على فترات دورية خلال سنوات حكم الحزب. وبالنظر إلى المعايير الدولية، كانت الانتخابات مقبولة من الناحية الفنية، لكنها كانت فى الواقع مجرد طقوس تهدف إلى إعادة سيطرة الحزب الواحد وتقويته. وفى كل مرة شعر فيها الحزب بالتهديد، استخدم التزوير والفساد والرشوة والقمع، حتى أصبح الحزب من سادة التزوير الانتخابى.

وتمتعت قيادات الحزب بمهارة فائقة فى تسوية النزاعات والصراعات فى داخل صفوفه، وهو الأمر الذى ساعد على منع وقوع أزمات فى المجلس التشريعى أو أعمال تمرد مسلح خارجه. وبالرغم من أن هذه الإستراتيجية كانت السبب فى ضمان استقرار الحزب وصموده لأكثر من 70 عاما، فإنها أرست أساس ضعفه فى المستقبل.

وفى ظل ارتفاع عوائد النفط نتيجة ارتفاع أسعاره فى السبعينيات، وصل فساد المسئولين إلى حدود غير مسبوقة. فأُهدِرت معظم الثروات التى تدفقت إلى البلاد نتيجة احتكارها لقطاع النفط فى مشروعات غير ضرورية. وفى أعلى المناصب السياسية، كانت وسائل الفساد الأساسية هى الحيازة غير القانونية للأراضى والتلاعب بمنشآت القطاع العام.

لكن هذا الوضع تغير فى منتصف الثمانينيات. ذلك أنه خلال الأزمة المالية القاسية فى بداية هذا العقد، سُلطت الأضواء على تجاوزات قادة الحزب التى أصبحت معروفة للشعب وهو ما ترتبت عليه آثار مهمة فيما يخص السياسات الداخلية للحزب وكذلك مستوى التأييد العام الذى كان يحظى به.

فساءت سمعة الكثير من ساسة الحزب الذين استفادوا بصورة شخصية من تلك الأساليب، مما منح فرصة لظهور جيل جديد من التكنوقراطيين الذين تولوا المناصب الحكومية بغرض استعادة نزاهة المالية العامة. وبالتدريج، نشأ شقاق بين السياسيين القدامى والتكنوقراط. وفى عام 1986، شكل أحد حكام الأقاليم السابقين واسمه كارديناس التيار الديمقراطى داخل الحزب ثم بدأ فى انتقاد الحكومة الفيدرالية بسبب تخفيضها الإنفاق على البرامج الاجتماعية. وعندما طُرد أعضاء التيار الديمقراطى من الحزب شكلوا الجبهة الوطنية الديمقراطية فى عام 1987.

وتسبب ترشيح الحزب الحاكم لساليناس فى الانتخابات الرئاسة عام 1988 فى تمزيق الحزب نهائيا عام 1989، حيث استقال اثنان من القياديين به، وكونا تحالفا واسعا يضم أحزابا يسارية ونقابات عمالية ومنظمات قاعدية. واتخذ هذا التحالف اسم حزب الثورة الديمقراطية. وفاز ساليناس فى الانتخابات بفارق ضئيل للغاية، واعتبر الكثيرون فوزه بمثابة نهاية الهيمنة للحزب الواحد.

ومن أجل الاستجابة للضغوط الشعبية المطالبة بالتجديد السياسى، ومنع المزيد من الانشقاقات فى صفوف الحزب، حاول الرئيس ساليناس تحسين صورة الحزب أمام الشعب. ونتيجة مساعيه من أجل إنقاذ الحزب، فقد استطاع البقاء فى الحكم سنوات إضافية قليلة مصحوبة بتراجع فى سيطرته على مؤسسات الدولة. وأدت الأزمة الاقتصادية التى شهدتها البلاد فى التسعينيات إلى فقدان الحزب لأول مرة الأغلبية المطلقة التى كان يحظى بها فى المجلسين التشريعيين فى عام 1997.

وكانت الصحوة السياسية للمجتمع عاملا حاسما فى عملية التغيير، حيث انضم المكسيكيون الذين سئموا الفساد وتزوير الانتخابات إلى منظمات المجتمع المدنى أو الأحزاب السياسية. وساهمت كل من الكنيسة، والحزب الليبرالى (أكبر حزب معارض آن ذاك) والقيادات الاجتماعية الأكثر صلابة فى المستوى القاعدى، فى رفع الوعى السياسى.

وكان واحدٌ من أحزاب المعارضة، وهو حزب العمل الوطنى، يشبه كثيرا حزب الوفد المصرى بتوجهاته الليبرالية. وقد تأسس هذا الحزب عام 1939، لكنه لم يحرز أية انتصارات مهمة حتى الثمانينيات، حينما تزايدت قوته بشدة، وهو ما كان يرجع إلى الدعم الذى منحه إياه عددٌ من كبار رجال الأعمال المستقلين.

وبلغ هذا المزيج المكَوَّن من تصدع الحزب الحاكم وتصاعد نفوذ الحزب الليبرالى، ذروة تأثيره فى الانتخابات الرئاسية لعام 2000، حيث فقد الحزب الحاكم منصب الرئاسة بعدما ظل مسيطرا عليه لمدة 71 عاما، وفاز مرشح الحزب الليبرالى فيسنتى فوكس.

ولعل نمط التحول فى المكسيك ومداه وطريقة حدوثه (بدون الاحتجاج الجماهيرى والعنف) كلها تُعتبر عوامل تشبه كثيرا الوضع فى مصر وحالة حزبها الحاكم والقوى السياسية التى تتحداه اليوم.

وبالنظر إلى تجربة المكسيك التى سبقت مصر بما لا يقل عن 15 عاما (إذا اعتبرنا عام 2000 نقطة التحول)، فهناك نتيجتان تثيران الاهتمام يجب تأملهما. ذلك أن هناك أنباء طيبة بالنسبة للحزب الحاكم القديم الذى خسر الانتخابات للمرة الأولى بعد 70 عاما، وهى أنه عاد إلى الحكم فى عام 2009 عبر انتخابات ديمقراطية. أما النتيجة الثانية فتُعتبر أكثر إثارة للقلق، حيث تشهد المكسيك اليوم حربا مفجعة ضد عصابات المخدرات. وأصبحت مؤسسات الدولة كافة مُهددة بسبب تلك السلعة الوحشية التى تنشر الرعب فى طول البلاد وعرضها. وقد يكون ذلك هو الثمن الذى يدفعه هذا البلد نتيجة ممارسات الفساد والنهب التى لم ينجح فى استئصالها قط، وهى الممارسات التى تعاود حاليا السيطرة على نظام الدولة.

كثيرا ما يؤدى الاستبداد إلى أضرار لا يمكن إصلاحها فى المستقبل إلا بتكلفة باهظة، وهو الأمر الذى يفرض على الطبقة السياسية المصرية التفكير فيه مليّا.
بسمة قضماني  مدير مبادرة الإصلاح العربي
التعليقات