«أقفاص فارغة».. سطوة النص ومكر الكتابة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 6:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أقفاص فارغة».. سطوة النص ومكر الكتابة

نشر فى : السبت 5 مارس 2022 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 5 مارس 2022 - 8:20 م

هذا النص المهم من أفضل ما قرأتُ فى السنوات الأخيرة، ولعله يستمد هذه الأفضلية من سماتٍ عديدة، أبرزها جرأة كاتبته، وحضورها الخارق فى النص، رغم أنه شكليا يتحدث عن الآخر، ولكنه فى الواقع، وبمعنى أدق، عمَا فعله الآخر فى ذاتها القلقة الوحيدة، وعما تفعله الأسرة والمجتمع فى الفرد، وقد جاء التعبير عن كل ذلك باذخ القوة والتأثير.
إلا أنه أيضا بوح يثير تساؤلات كثيرة على كل المستويات، سواء حول الشكل، أو من حيث المضمون.
أتحدث عن كتاب «أقفاص فارغة.. ما لم تكتبه فاطمة قنديل»، الصادر عن دار الكتب خان، ومؤلفته الأكاديمة والشاعرة المرموقة فاطمة قنديل، التى اختارت أن تضع كلمة «رواية» على الغلاف، وقالت، فيما قرأت، إن ما كتبته يعبِر عن سيرتها الذاتية، ولكنها رممت بالخيال أجزاء كثيرة لم تعد واضحة فى ذاكرتها، وكان ذلك مبررها لكى تنقل نصها إلى خانة الرواية.
الحقيقة أن هذا النص أقرب ما يكون إلى السيرة المروية، وافتراض أن كل سيرة تتحرى الحقيقة بدقة، وأن الرواية تبدأ عندما يتدخل الخيال، هو أمر ليس دقيقا على وجه العموم، ففى الكتب التى تقدِم نفسها كسيرةٍ صريحة، يمر النص المكتوب أيضا من ثقوب الذاكرة الواسعة والملتبسة، وهى أيضا كتابة معاصرة بالضرورة عن الماضى، أى أنها تتم بعيون اليوم، ولا يمكن أبدا أن تنقل الحقيقة كما وقعت بالضبط، فلسنا بإزاء محضر نيابة يتحرى الدقة، وإنما أمام سرد يستعيد مادة عبر ذات معاصرة، ومن خلال ذاكرة انتقائية بالضرورة، تتحدى كوابح وفرامل مسيطرة.
وفى الحالتين (السيرة والرواية) يصل الماضى إلينا كما نراه نحن الآن، لا كما حدث بالفعل، ومن خلال اللغة، وهى وسيط جديد مضلل فى كثيرٍ من الأحيان، أى أن وضع كلمة «رواية» على الغلاف لا يحل معضلة تحويل الذاكرة، أو بقاياها، إلى نص مكتوب، فالأمر متعلق بطيبعة فن الكتابة، وبطبيعة استدعاء الذاكرة، وهما أمران فى منتهى التعقيد.
لو كان المقصود فعلا «أن يرمم الخيال الذاكرة» فحسب، لكان من الممكن أن يُشار فى النص إلى أن هذه الواقعة ليست واضحة تماما، وأن الكاتبة، التى تسرد بصوتها الخاص، تريد أن تتخيل ما حدث على هذا النحو، وفى النص فعلا أجزاء تتضمن هذا المعنى، أى أن النص كتب بالأساس بمنطق السيرة الذاتية، وكتب بمنطق التحرى عن موضع الجرح، وتطهيره حتى لو كان مؤلما، بل لعله كُتب بمبضعِ طبيبٍ يشرح جثة، حيث لا شىء إلا الواقع جسدا ولحما ودما ورائحة.
ثم ظهر خيار أن يكون النص رواية تتيح أن يتم التشريح أيضا كاملا وساطعا، ولكن بحرية أكبر، وبخسارة نفسية أقل، فخلق ذلك ثنائية ومراوحة تتغلغل فى الكتاب بصورة مدهشة، فكأن هذا الشكل الملتبس يعبر عن مسافة شاقة خاضتها الكاتبة بين الذاكرة المؤلمة، وبين النص المكتوب الذى يفرغها.
خذ عندك مثلا هذه الثنائيات، اللا شعورية غالبا، والتى يترجمها النص بلا هوادة، فالقراءة السطحية للنص تقول إن الساردة، تصفى حسابها مع مسببى هذا الألم، ومعظمهم من الأخوة، ومن ذوى القربى، وترى أن الكتابة هى الموت، إنها تكتب عن موتى، وكانت تتمنى وتدعو أن يموت والدها وشقيقها رجائى، والكتابة تجعلها تجتث جذورا عفنة ميتة، وتتحرر من التراجيديا التى عاشتها.
لكن الكتابة بهذه التفاصيل، وبذلك الحضور للمكان وللشخصيات، تفعل العكسَ على طول الخط، إنها فى الواقع بعثت الموتى، وحفظتهم فى كلمات النص، بل إنهم خرجوا لنا كقراء بقوة حضورهم المكتوب، ولعلهم يشتكون لأنهم حرموا من أن يكون لهم صوت خاص، يعبرون به عن أنفسهم فى رواية فنية، لقد صاروا جلادين وضحايا معا: الساردة أسيرتهم، وهم محبوسون فى نصها.
هذا الموت الفعلى لشخصيات العائلة، هو حياة كاملة فى السيرة، وفى الذاكرة معا، هذا النص دليل على أن هؤلاء لم يموتوا أبدا فى ذاكرة الساردة، ودليل على أن الفضفضة إلى الهواء، وإلى الطبيب، وإلى الصديقة، لم يقتلهم، ولا شىء يترجم حضورهم الأبدى مثل كتابة باقية.
ثنائية أخرى مدهشة: النص فى مضمونه عن تفكك عائلة، وانفراط حلم، وتكرار خيبات فردية، ولكن الكتابة أعادت، دون قصد، تركيب العائلة من جديد، وجعلت من الخيبة مرثية، ومن «الأقفاص الفارغة» حياة صاخبة.
هذا التفريغ للذاكرة امتلأ من جديد بالكتابة، وهذا التفكيك سرعان ما صار بناء مصمتا، و«ما لم تكتبه فاطمة قنديل» هو فى الحقيقة ما أرادت فاطمة قنديل أن تكتبه بكل قوة، بل لعل النص نفسه هو الذات الحقيقية لها، التى لم يعالجها الشعر، ولم تطببها عرائس الخيال، ولم تشبعها ملائكة المجاز.
هذه الكتابة لم تمِت العائلة، ولكنها جعلتها قطعة فنية، صورة مكتوبة تشبه تلك الصور المعلقة على جدار البيت، أيقونة لتأمل الضعف الإنسانى، وفوضى الحياة، وسطوة الأقدار، الكتابة نحتت من الحجر الخشن تمثالا عجيبا رغم قسوته، صار الخاص عاما تماما، لأن فاطمة قنديل زادتنا معرفة بالإنسان فى أحواله وتنافضاته وتقلباته.
صارت الأم أهم كثيرا من امرأة مكافحة يمكن أن تتكرر مئات المرات، لقد أصبحت «بطلة تراجيدية» بالمعنى الدرامى، إنسانة تواجه قدرها بشجاعة حتى الرمق الأخيرة.
بدا النص مثل تأمل عميقٍ لأفكارٍ مثل الألم والموت والفقد، لضياع البوصلة والعائلة والمعنى أحيانا، هؤلاء بشر لا يحاربون بعضهم بقدر ما يحاربون قوى خفية، كى يقفوا على أرضٍ صلبة، كل يفعل ذلك بطريقته الخاصة، وكأننا أمام دون كيخوتة يُبعث فى الواقع المصرى، ويتقمص شخصياتٍ تحارب طواحين الهواء بلا كلل.
«أقفاص فارغة» علامة مهمة فى كتابة السيرة المصرية والعربية، ليس لأنه دليل الجرأة فحسب، ولكنه أيضا لأنه دليل ثمنها. إنه عنوان سطوة النص، ومكر الكتابة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات