«شقة عم نجيب».. دراما أتلفها التشتت! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«شقة عم نجيب».. دراما أتلفها التشتت!

نشر فى : الخميس 5 أبريل 2018 - 10:30 م | آخر تحديث : الخميس 5 أبريل 2018 - 10:30 م

ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التى يستلهم عمل أدبى أو درامى شخصيات نجيب محفوظ الحية والخالدة، فمنذ وقت مبكر استدعى الكاتب يوسف الشارونى شخصية «زيطة» صانع العاهات من رواية «زقاق المدق»، ليجعلها محور قصة قصيرة كتبها، ومنذ فترة كتب الروائى إبراهيم فرغلى رواية بعنوان «أبناء الجبلاوى»، ظهرت فيها شخصيات نجيب محفوظ وهى تتجول فى المدينة التى يحاصرها التعصب والجهل..

وفى رواية سحر الموجى الأحدث، «مسك التل»، تظهر شخصية «أمينة»، إحدى بطلات الثلاثية الشهيرات، لتنضم فى سياق الرواية إلى بطلات روايات أخرى، تمارسن الفضفضة والفعل.. ولدينا الآن مسرحية «شقة عم نجيب» التى كتبها سامح مهران، وأخرجها جلال عثمان، وقدمت على مسرح الغد، وهى تستحضر مجموعة من شخصيات روايات محفوظ فى صورة أشباح داخل شقة بالعجوزة.

ثراء الشخصيات، وثراء دلالاتها الفنية والاجتماعية والإنسانية، هو بالتأكيد سبب هذا الاستدعاء، كما أن بعض الشخصيات تحول إلى نماذج أدبية يمكن تطويعها بسهولة على كل زمن وعصر: محجوب عبدالدايم، مثلا، صار نموذجا للانتهازى المتسلق عبر الأجيال، على الرغم من اختلاف الوسائل والغايات، والسيد أحمد عبدالجواد صار وصفا لكل زوج متسلط يقهر زوجته، ويؤكد ذكورته فى كل موقف، و«نفيسة» التى سقطت مع سقوط عائلتها، يمكن أن نجد لها شبيها فى كل جيل، وهكذا تشهد الشخصيات على واقعنا وحياتنا، ويمكن تطويعها بسهولة لكى يقال من خلالها الكثير عن الآنى والمعاصر، مثلما قال محفوظ الكثير من خلالها فى زمنها الماضى، وفى عصرها الغابر.

الاستدعاء، إذن، يجب ألا يكون مجانيا، وإنما لكى نقول شيئا جديدا ومختلفا، و«شقة عم نجيب» تسرد حكايتها على جنبات المسرح الأربع، مقاعد المسرح الدوارة تتيح لنا أن نتأمل اللوحات المتتالية، وأن ندور معها، وكأننا فى قلب الرحلة، والبداية جذابة وساخرة: سعدية وعباس يبدو أنهما تجاوزا سن الشباب، ولكن على الرغم من كتب الكتاب، فإنهما لم يعثرا على شقة، وأقصى ما تسمح به الميزانية أن يعزم عباس سعدية على قرطاس من الترمس!.

فى الخلفية، تبدو عمارات شاهقة بالأبيض والأسود، وأمامهما سور من خشب، وعلى شريط الصوت نسمع أغنية «آه لو لعبت يا زهر»، فجأة يقرأ عباس فى قرطاس الترمس إعلانا عن شقة ست حجرات فى العجوزة، فيتجهان لاكتشافها من باب الفضول، وهناك سيجدان شخصيات من روايات نجيب محفوظ، كأشباح هائمة.

البداية البارعة سرعان ما تخذلنا كلما تحولنا شطر كل لوحة، سبب الخذلان هو البحث عبثا عما يجمع هذه الشخصيات فى فكرة واحدة، ترتبط بواقعنا الراهن، تصورت أن المؤلف يؤرقه الفارق الطبقى بين الأغنياء والفقراء، خاصة أن الشبح الأول فى الشقة قادم من «ميرامار»، ومن أثرياء ما قبل 1952، وهو يتعمد الحط من شأن عباس وسعدية، بل كل أفراد الطبقة، الذين لا يفعلون سوى الإنجاب، والذين لم يتعلموا شيئا، والذين تفوح رائحتهم كلما اقتربت منهم.
كما تستدعى المسرحية، فى لوحة أخرى، «على طه» الاشتراكى القادم من رواية «القاهرة الجديدة»، ويرى ضحية «عيسى الدباغ» فى «السمان والخريف»، وتتعاطف معهما، وتنحاز لمعاناتهما.
ولكن النص يستدعى شخصياتٍ محفوظية لا علاقة لها بفكرة الفارق الطبقى؛ مثل «السيد أحمد عبدالجواد»، و«زنوبة»، وبالطبع «أمينة»، وكذلك «محجوب عبدالدايم»، الانتهازى الأشهر، بل تظهر أيضا شخصية «الرجل ذى الرأسين» من قصة «قسمتى ونصيبى»!!

إذا كان المقصود أننا أمام شخصيات منقسمة على ذاتها، فإن هذا الأمر ينطبق على «سى السيد»، والرجل ذى الرأسين، ولكنه لا ينطبق على «زنوبة» أو «أمينة»، أو حتى «محجوب» الذى اختار فلسفته غير الأخلاقية، وحسم موقفه بلا تردد.

وبينما تظهر فكرة الصراع بين الغنى والفقير أحيانا، تظهر أيضا فكرة قهر المرأة، وفكرة وسوسة الشيطان، وفكرة صراع الإنسان مع نفسه، التى يمثلها «الرجل ذو الرأسين»، وبسبب هذا التشتت، فإن اختيار الشخصيات المحفوظية يبدو بعيدا عما تستدعيه الدراما من تجانس وتماسك، فى إطار فكرة واحدة مركزة ومحورية.

ما إن تمسك خيطا، حتى يظهر خيط آخر، وبينما يسقط عباس فى غواية زنوبة، فإن سعدية تبدو أقوى من الأشباح، دون أى مبرر، ولعل من أوضح مشكلات النص أننا لا نعرف سوى أقل القليل عن سعدية وعباس، إنها شخصيات أقرب إلى الأنماط الجاهزة، بل إن شخصيات محفوظ المستدعاة بلمساتها العامة، تبدو أقوى وأنضج بكثير من عباس وسعدية.

لو كنا نعرف شيئا عن سعدية، لفهمنا ما انتهت اليه من تمسك بالحرية، ومن رفض لشخصيات ما، وانحياز لشخصيات أخرى، تدور سعدية والأشباح حول جنبات المسرح، فندور معها، ومع الدوران تتوه الأفكار، وندخل فى دائرة الحوارات والمونولوجات المباشرة، وتنطلق الشخصيات المحفوظية بلا سياق يحكمها، وكأن وجودها وحده يكفى، لكى نستوعب ما جرى فى الشقة المسكونة.

يقتضى الإنصاف أن نشيد بجهد الممثلين الموهوبين، وقدرة بعضهم على الأداء الكوميدى، وأن نشيد بجهد المخرج فى تقديم اللوحات، وتحريك ممثليه، وتوظيف الديكور البسيط المعبر بلونين فقط هما الأبيض والأسود، ولكننا خرجنا من الشقة مثلما دخلنا إليها، تزاحمت الأفكار، مثلما تزاحمت الأشباح، حضرت بعض شخصيات نجيب محفوظ كيفما اتفق، وكيفما تيسر، فصرنا أمام دراما أتلفها التشتت، أرادت أن تقول أشياء كثيرة فى نفس الوقت، فغاب القصد، وتاه المعنى، وضاع «الطريق»، ولم نحصد إلا «السراب».

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات