رجل.. من البنائين - كمال رمزي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 12:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رجل.. من البنائين

نشر فى : السبت 5 ديسمبر 2009 - 9:37 ص | آخر تحديث : السبت 5 ديسمبر 2009 - 9:37 ص

 لم أعرف عنه تلك الجوانب الجميلة، المضيئة، إلا الآن، ومصادفة. علاقتى به كانت هامشية، مجرد تحية عابرة وهو فى طريقه لجراج معداته بجوار بيتنا القديم فى حلمية الزيتون. إنه مهذب، متواضع، برغم ما يقال عن ثرائه، أناقته تعبر عن ذوق رفيع من دون مغالاة أو تكلف. بعد انتقالى لسكن جديد، ومع مرور الأيام، نسيته، أو على الأقل، توارى فى ذاكرتى، ولكنه تراءى لى فجأة، أثناء حديث مع الصديقة العزيزة دينا جلال، حول موضوعها الأثير، المتعلق باقتصاديات السينما. حكت لى أنها، منذ سنوات، أثناء عودتها من بورسعيد، جلس بجوارها فى «السوبر جت» رجل محترم، وبعد عرض فيلم سخيف سألها عن رأيها، أجابت أنه من «أفلام المقاولات»، تكدر وجه الرجل وأخذ يدافع، بمحبة واحترام، عن مهنة «المقاول»، وقال إن مصر، منذ فجر التاريخ، بنيت على أكتاف المقاولين، وأن المعمار تطور بخيال المهندس المقاول، منذ ما قبل أهرامات الجيزة، إلى ما بعد مجمع التحرير ومكتبة الإسكندرية.. وما إن ذكرت دينا جلال اسم الرجل حتى تذكرته بوضوح: أنور الحماقى.

دأب أنور الحماقى على إرسال كتاباته لدينا جلال، وبدورها، أرسلت لى بعضها، التهمتها بشغف، فالرجل، العاشق لمهنته، صاحب أسلوب شاعرى خلاب، لا يهيم فى الأوهام، ولكن يتأمل برؤية شاملة وبصيرة نافذة، إلى ما قد نراه مألوفا وعاديا، وفى ذات الوقت، يتمتع بذاكرة تستحضر التاريخ والجغرافيا والواقع، فتحت عنوان «الأسوار» يكتب «تبنى الأسوار لتحمى خصوصيات الناس، وتهدم أحيانا لتحمى حرية الناس، فقد هدمت أسوار الباستيل فى سبيل الحرية، وبنيت أسوار لحماية الحرية».. وفى مقاله الأخاذ، يتوقف أمام الأبواب التى لابد أن تتوافر فى الأسوار «للدخول أو لمنع الدخول، وللخروج أو لمنع الخروج»، وبالضرورة، ثمة حراس للأبواب، مسالمون أو مسلحون، وأكرمهم «رضوان ــ عليه السلام ــ لأبواب الجنة».

تأملات أنور الحماقى، تنتقل بسلاسة بين الماضى والحاضر، فيكتب «قد تستعمل الكلاب لحراسة الأبواب وما خلف الأسوار، وأقدم الكلاب فى الحراسة ــ كيربيروس ــ الكلب الوحشى الذى يحرس أبواب الجحيم فى الأساطير اليونانية، وأحدثهم كلب هزيل يحرس بلكونة أحد الجيران ويصرخ بلا انقطاع فى نباح مشروخ».. ولا يتوقف المهندس، الشاعر، المقاول، عند السور كبناء مادى يبوح بعشرات الأسرار فحسب، بل يتعرض، بحكمة، إلى معان أعمق حين يشير إلى أن أبشع الأسوار هى التى تفصل بين العقل والواقع. وأجمل الأسوار «هو السور الوهمى الذى يبنيه بعض الناس ليعرفوا حقوقهم فلا يتعدوها». أنور الحماقى، من سلالة البنائين، رحل عن دنيانا منذ سنوات قليلة، وتمنيت على دينا جلال أن تجمع كتاباته لتنشر، فيعرف اليائسون أن ثمة نوافذ مضيئة، ووعدتنى أن تفعل.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات