الزهد قيمة سياسية - جمال قطب - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الزهد قيمة سياسية

نشر فى : الإثنين 6 سبتمبر 2010 - 10:21 ص | آخر تحديث : الإثنين 6 سبتمبر 2010 - 10:21 ص

 لا يحسبن أحد أن الزهد هو خصلة من خصال المتصوفين، ولا دعوة من دعوات الدراويش، بل إن الزهد ميزان النبوة وعصب الرسالة، ومقياس التقوى ودليل الإيمان وحصن الثبات ودرع الحق... إذ لو وثق الإنسان فى ربه إلها رازقا لامتنعت نفسه ويده عن حقوق الآخرين، أما أنه ينال من حقوق الناس فذلك ليقينه أنه هو العبد الذى يرزق نفسه، ويحمى نفسه، ويضمن لنفسه ما تريد، (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر 56 ) وكذلك لا يسعى إلى ما عند الناس.

الزهد هو ألا تسعى لما يمكن أن تستغنى عنه، ولا تحرص على حصولك على شىء بذلة نفس، أو بتجاوز شرعى أو نفاق أحد. والزهد هو أن تتمسك بالحق لا يزيحك عنه مغنم أو منصب أو تهديد فالأجل والبقاء بيد الله وحده (لكل أجل كتاب).

والرزق بجميع عناصره بيد الرزاق..
لهذا كثر جنود الحق ورجاله أمام الباطل وأعوانه فهذا خليل الرحمن يلقى فى النار فلا يداهن، وهذا موسى (صلى الله عليه وسلم) يتحداه فرعون ويطارده، فلا يتراجع، وهذا الرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) يأبى المال والملك مقابلا لأن يدع دعوته ويصير ملكا على مكة، مصدر هذا الثبات هو الزهد فى الدنيا وما فى يد الحكام، ومازالت صفحة الأرض تزدحم بمواقف الزاهدين من مشارق الدنيا إلى مغاربها فلم تحرم قرية ولا جماعة من رجولة زاهدة وإيمان وقور لا يخاف ولا يخشى فى الله لومة لائم.

فالزاهد لا يقع أسيرا لاحتكار، ولا عبدا لشهوة، ولا راجيا لحاجة، فلا هو خائف من أحد، ولا مبال بقدرة أحد إلا الواحد الأحد جل جلاله.
وانظر إلى شيخنا أبى الحسن بنان المصرى (رضى الله عنه) حينما وجب حق الله ويقينه فى مواجهة أحمد بن طولون حاكم مصر وتعنيفه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فطاش عقل الأمير وأمر بإلقاء الشيخ إلى الأسد على مرأى من الخاصة والصفوة، والنخبة. فوضع الشيخ فى قاعة لها شرفات عليا ينظر القوم منها، وفتح باب القفص وخرج الأسد يتمطى وظن الجميع أن أجل الشيخ قد دنا، فالأسد هراس فراس جائع طاو، ومع ذلك فالشيخ لا يتحرك، بل لا يقشعر جسده، ولا يغادر مكانه، ولا يحرك له جفن، ولم يستجر بأحد، فإذا الأسد يتمهل ثم يتمسح فى الشيخ تمسح القط فى طفل يلاعبه، وطال الوقت حتى أحس بن طولون أنه قد هزم، وأن آية من آيات الله تتحداه، وبينما كان هذا هو حال قاعة الافتراس كان شيعة الأمير وسدنته يواصلون نفاقا لا يثمر، وتأويلا لا يعرفه الحق.

فهاهم حاشية ابن طولون يقول أحدهم إن الشيخ لم يتحرك لأن سكتة قلبية أصابته، والوزير يقول: إن الشيخ يتقن السحر فسحر الأسد وأبطل قوته، وثالث يقول: إن الشيخ قد عوذ نفسه تعويذة فأصبح لا يرى ولا يحس... لكن ابن طولون قد أفاق وأيقن أن قوة الله فوق قواه، لأن الشيخ لا يريد ملكا بل يريد حقا، وأنه غير حريص على شىء مادام لا يحرص على دمه ونفسه، وأن الشيخ غير متآمر مع أحد لاقتناص السلطة.

هكذا صام الشيخ عن كمالات حيوانيته فلا رغبة ولا شهوة فصام الأسد عن حيوانيته فلا افتراس ولا عدوان.
وأعلن ابن طولون لشيعته: كلكم حفاة عراة من الإيمان: كلكم متشوق لما معنا وفى أيدينا... كلكم يتراضانا ولا يحبنا إنما تحبون ما فى أيدينا وما عندنا وأقسم قائلا فوالله الذى لا إله إلا هو لا أصدق إلا صاحب الكرامة وجىء بالشيخ.

ثم سأله: يا بنان كاد قلبى ينخلع من مكانه أنا وهؤلاء من صوت الأسد وصورته رغم بعدنا عنه، ورأيناك ساكنا صامتا لا يحرك لك جفن وإن بدا عليك الفكر.. فيم كنت تفكر والأسد يماسحك.. قال الشيخ: ما تحركت لأن قوتى لا تنفعنى فى الحبس مع الأسد وأجلى لا يطول فى الفرار ولا يقصر بالقرار.

رجع بن طولون يلح فيم كنت تفكر لحظتها.. قال الشيخ : دخلت حبسكم بثياب طاهرة وعلى وضوء، فلما لعقنى الأسد بلعابه كنت أفكر فى لعاب الأسد أطاهر هو أم نجس؟!

سوف يبقى الزهد علم الرجولة، وسر البطولة، وباب الثبات، ومفتاح الحق، ومخرج الأوطان والشعوب من الهوان والدمار.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات