قصى صالح الدرويش - كمال رمزي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصى صالح الدرويش

نشر فى : الثلاثاء 7 أبريل 2015 - 3:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 أبريل 2015 - 3:10 م

عرفته صوتا قبل أن أراه، وسمعته ضحكة قبل أن أتبادل معه كلمة واحدة..

منذ أكثر من ثلاثة عقود.. فى مدينة بغداد، التى كانت ــ أيامها ــ عامرة بالمشاريع والنشاطات والآمال، عُقد «مهرجان السينما التسجيلية»، بحضور العشرات من المهتمين بهذا الشأن، كنت أقف مع بعض الأصدقاء فى الدور الثانى بالفندق.. فجأة، انطلقت قهقهة عالية، نابعة من القلب، آتية من البهو فى الدور الأرضى، أعقبتها شهقة ممتزجة بما يشبه الصفارة.. ابتسم الجميع، وفيما يببدو أن زميلى، الناقد اللبنانى المرموق، محمد رضا، لاحظ دهشتى. قال لى «إنه قصى درويش».

بعد قليل، كنا، جميعا، نجلس مع بعضنا، هى المرة الأولى التى التقى فيها مع قصى، وجها لوجه، كنت أعرفه من قبل، خلال مقالاته السياسية والسينمائية، المتسمة بالذكاء وإتساع الأفق، فضلا عن أسلوبها المشرق، بلغتها الجميلة، المحددة، الدقيقة، وقدرتها على التعبير، بوضوح، عن الجوانب المتعددة للقضية التى يتعرض لها.. ومن الناحية الإنسانية، عرفته، عن طريق مشاعر دافئة، يكنها له أصدقاء مشتركون، فى مقدمتهم رأفت الميهى وسمير فريد وعلى أبوشادى.

فى اللقاء الأول، لا يحتاج المرء لجهد كى يدرك أنه إزاء شاب ــ أيامها ــ يختلف عن السائد والمألوف، فهو، الوحيد الذى استبدل رابطة العنق ببابيون، وارتدى قميصا كاروهات وبنطالا واسعا وجاكت، كلها، بألوان ذاهية، قد تبدو، نظريا، متنافرة، لكنها، معه، متجانسة، متسقة، على نحو لافت للنظر.

برغم بدانته الملحوظة، تمتع بحيوية دافقة، سواء فى الحركة أو العينين الملتمعين باليقظة والذكاء. إنه منتبه دائما، لا تفوته جزئية أو تفصيلة، ردود الأفعال، عنده، سريعة، ساخنة، فضلا عن عقل بالغ النشاط، فلا يمكن أن تمر عدة دقائق فى صمت، فعادة، يبادر إلى طرح قضية خلامية، سياسية أو فنية أو أخلاقية، مثيرة للجدل. حينها، يصل قصى إلى أفضل حالات الألق الفكرى.. لذلك، ليست مصادفة أن يغدو قصى من أمهر، وأعمق، المحاورين، فى الصحافة العربية، ولعل محاوراته الضافية مع يوسف شاهين، هند صبرى، حسين فهمى، أن تكون خير دليل، طبعا، بالإضافة إلى حواراته مع المفكر، القطب، راشد الغنوشى، التى أصدرها فى كتاب مهم، جرى منعه فى العديد من الدول العربية.

توالت لقاءاتنا، فى مهرجانات الجزائر، حيث عاش طفولته وشطرا من شبابه هناك، مع والده، مدرس اللغة العربية الذى أورث ابنه ثروة لغوية ظهرت واضحة فى كتاباته، ومهرجانات المغرب، ذات التوجهات الثقافية الطموح، بالإضافة لمهرجانات فرنسا، ما بين معهد العالم العربى، الذى اهتم بالسينما العربية لفترة، و«كان» بمهرجانها العريق.

فى فرنسا، حيث استقر قصى، تعمقت صداقتنا، خاصة أنه، بصدق وحماس، اعتبر نفسه، ليس مسئولا عن راحتنا، بل عى سعادتنا، وسريعا تكشفت طباعه الأصيلة، وميوله الخاصة، وأولوياته، فى مقدمتها، عشق الحياة، بكل ما تحمله كلمة «الحياة» من معنى، فإذا كنت «عملا»، فإنه ينغمس فيه بدأت وجدية تبلغ حد الصرامة، وإذا كانت بهجة، فإنه ينهل منها بكامل طاقته، وإذا كانت مغامرة، فإنه يقدم عليها بلا تردد، يتقبل نتيجتها بروح لا تعرف الندم.. وهو، فى هذا كله، لابد أن يكون معه أصدقاء، قد يختلف معهم فى الكثير من الأمور، وربما تصل إلى حد القطيعة، لكنها قطيعة مؤقتة، فسرعان ما تتلاشى المسافات ويذوب الجليد وتعود العلاقات أقوى مما كانت عليه».

قصى، لا يمكن أن تراه وحيدا، يشاهد الأفلام مع أصدقائه، المغربى مصطفى المسناوى، اللبنانى غسان عبدالخالق، السورى محمد الأحمد، المصرى سمير فريد، وبعدها، يحتدم النقاش، وغالبا، لا ينتهى الحوار بنتطابق وجهات النظر، لكن قيمته تتمثل فى ذلك التنوير الذى يضيئ جوانب العمل الفنى.. لذا، تتميز مقالات قصى درويش السينمائية، التى صدرت فى كتاب «قراءة نقدية فى أفلام التسعينيات»، ــ ضمن سلسلة «آفاق السينما» بتنوع تفسير الفيلم الواحد، وتحليله فنيا وسياسيا واجتماعيا، الأمر الذى يمنح هذه المقالات قيمة مضاعفة.

لسنوات طويلة، أشرف قصى درويش على صفحة السينما فى جريدة «الشرق الأوسط»، جعلها نابضة بالحيوية، يلاحق فيها المهرجانات والأفلام والأحداث، بعد خروج صديقه الحميم، عثمان العمير، من رئاسة تحريرها، غادرها، وأقدم على إنشاء مؤسسة «درويش بريس»، وأصدر مجلة «الحدث» السياسية، ثم «سينما»، وهما مجلتان رفيعتان، فى إخراجهما، وتحريرهما، مستعينا بأصدقائه، فضلا عن أصحاب الأقلام النزيهة، إبراهيم العريس، وائل عبدالفتاح، سمير فريد، مصطفى المسناوى، فريدة النقاش، فاروق عبدالقادر، وآخرين.. لكن «الحدث» بنزعتها الانتقادية، لم تتحملها الدول العربية، فتوالت مصادرتها هنا وهناك، ولم تستطع «سينما» تغطية تكاليفها، وترنحت المؤسسة إلى أن انهارت.

قصى درويش، أحب مصر، بأماكنها، وناسها.. لكنه عشق «الحسين»، بدروبه، وشعبيته، ومقاهيه تلتمع نظراته بالإشراق والانتشاء حين يتابع نشاط الناس فيه، بعد منتصف الليل، يلفت انتباهنا إلى أن هذا المكان، هو الوحيد فى العالم، الذى يظل نابضا بالحياة والحيوية طوال الأربع والعشرين ساعة.. كما ربطته صداقات عميقة مع فنانيها ومثقفيها.. فى إحدى زياراته، ذهب لمشاهدة «الزعيم» من دون معرفة بطلها، وعندما جلجلت ضحكته الشهيرة، بشهقة الصفارة، التفت عادل إمام إلى الصالة، ليقول، بأريحية «الله.. ده قصى هنا.. جه امتى؟».. كانت تحية جديرة للراحل قصى درويش الذى سيعيش مضيئا، فى ضمير الصحافة العربية.. وفى قلوب أصدقائه.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات