زهرة البسلة - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 10:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زهرة البسلة

نشر فى : السبت 7 مايو 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 7 مايو 2022 - 8:40 م
بتلات وردة مجففة وُضعت من قديم الأزل بين ضفتى كتاب كانت كفيلة بأن تستدعى سربا من الحكايات. أحيت فى الذاكرة صورة حديقة صارت اليوم مهجورة، بينما كانت تصل فى الماضى إلى ضفاف النيل فتغمرها المياه وقت الفيضان، وسيدة أنيقة كانت تقف فى شرفتها لتطل على مملكتها الصغيرة، وعطر الياسمين والفل المجوز يفوح من الأغصان الموجودة تحت الشرفة، ويختلط بروائح أخرى من كل الألوان، إذ كانت الحديقة مقسمة إلى أجزاء تمت زراعتها بعناية فائقة: بستان من أشجار المانجو والجوافة والموالح تسقط بعض ثمارها على الأرض من تلقاء نفسها وأزهار مختلفة.
صورة تلك السيدة ضاحكة الثغر، لامعة العينين، بشعرها القصير وشفتيها الرقيقتين، ارتبطت فى ذهن كل من عرفها بالصباح الباكر، وقتها المفضل لقطف الزهور حين يكون محتواها من الماء كبيرا وتكون رائحتها العطرية أقوى، خاصة زهور البسلة البيضاء والزرقاء المفضلة لديها. الأرض كانت تضحك من السعادة أيامها ولا حاجة لأن نبحث عن الفردوس فى السماء. الهدوء يسود المكان، وهى قد وضعت جاكيت على كتفيها ليقيها من برودة الجو.
• • •
علاقة الصداقة والقرب الشديد بين الابنة وهذه الأم التى رحلت سريعا وراحت معها تلك الأيام ستظل تفتقدها طيلة حياتها التى امتدت إلى ما بعد الثمانين. ظلت دوما تتذكر «تعاليم ماما» وتتبعها حرفيا، سواء فيما يتعلق بالنظام ووصفات الطبخ أو بالعلاقات الإنسانية، «فماما الله يرحمها كانت تعمل كل حاجة حلو»، وقد ورثت عنها رجاحة العقل وحب الثقافة والغناء والقهوة وعادة تنظيف البيت مرتين يوميا حتى لا يكون هناك أى خلل أو تقصير. ومن وقت لآخر حين يشتد بها إحساس الفقد، كانت تتوجه إلى قبرها لتتحدث معها وتأخذ برأيها وقد حملت بيدها باقة ضخمة من الزهور التى كانت تحبها، تشكيلة متنوعة بحسب المواسم لكن لا تخلو أبدا من أزهار البسلة بألوانها الأبيض والوردى الفاتح والداكن والأزرق البنفسجى.
هذه الأزهار الفراشية الجميلة التى لم نعد نراها اليوم فى الحدائق تشبه الأم كثيرا، فالبازلاء أو البسلة نبات حولى من جنس البقوليات لا يحب أن يتم تقليمه بل يفضل أن يُترك على سجيته فيتشعب ويتسلق وينمو بحرية وتمرد. يتميز بسهولة إزهاره ومرونته، فيختلف موسم تزهيره باختلاف المناطق ودرجات الحرارة. انتشر فى جنوب البحر المتوسط منذ القرن السابع عشر وقام الاسكتلندى هنرى ايكفورد بإدخال أصناف جديدة فى أواخر القرن التاسع عشر، لكن أصوله الأبعد ترجع إلى العراق وتركيا، منذ سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، ثم ظهر بعدها بقرون فى جورجيا، ومنها انتقل إلى أوروبا ومن بعدها مصر. كذلك الأم اتخذت عائلتها عبر الزمان مسارا مماثلا حتى استقر بهم الحال هنا.
رقة الأوراق والبتلات جعلتها تهوى الاعتدال، فلا يجب غمرها بالماء ولا الزج بها تحت شمس محرقة، سواء البازلاء الحلوة السامة أو تلك التى نأكلها. تنمو زهورها أحيانا وحيدة بالقرب من الأوراق، مثلما نشأت هى الأصغر بين أخواتها، حتى رائحتها الخفيفة الذكية تعطر الجو دون أن تقتحمك، كما تحب هى العطور. الأبيض منها يعتبر رمزا للأناقة، والأزرق بشكله الذى يشبه الفراشة يتم غليه واستخدامه فى آسيا لتحضير مشروب غنى بمضادات الأكسدة ويساعد على حماية البشرة من زحف التجاعيد، لربما استخدمته الأم بالفعل للعناية ببشرتها الرائقة التى كانت فى نعومة جلد الأطفال؛ إذ كانت تحفظ عن ظهر قلب العديد من وصفات التجميل الطبيعية وفى جعبتها منها الكثير والكثير، فليس هناك من هو قادر على منافسة الجدات المهيبات بهذا الشأن.
• • •
حين ذهبت الابنة آخر مرة لزيارة قبرها كانت الكلمات تسافر دون تسرع، روت لها بعض ما جرى وبعض ما يؤرقها. حديقة البيت على وشك أن تباع فهو كل ما تبقى لهم من ميراث عائلى. ذهب من ذهب ورحل من رحل، وتبدلت الأحوال صعودا وهبوطا، وظلت هى تحرس المنزل القديم والحديقة التى خلت الآن من زهور البسلة والبانسيه والورد البلدى، ولم يعد بها سوى أشجار الفاكهة التى تقف وحيدة فى الخلاء. هناك من يوافق على البيع، وهناك من يرفض.. دب الخلاف دون صخب على طريقة هذه العائلة، وهناك قضايا لمنازعات حول حق الملكية ومفاوضات سخيفة مع أطراف غير معنية بالأساس، لكنها أقحمت نفسها فى الموضوع.
صارت الحديقة تعبق برائحة الموت، والابنة تظن أنها على مشارفه. التقطت الكتاب حيث احتفظت بالوردات التى جففتها أمها، البانسيه يهمس «اذكرونى» وزهرة البسلة تشبه حياة والدتها القصيرة، اكتشفت ذلك الآن فقط وفهمت سر تعلقها الدفين بها.
التعليقات